شاع في الأدبيات السياسية وفي الخطابات الصحفية المعاصرة علي السواء استخدام عبارة التحول الدبمقراطي. والتحول الديمقراطي كمفهوم يستخدم في علم السياسة يعني الانتقال من نظام سلطوي إلي نظام ليبرالي ديمقراطي. ويمكن القول أن العالم قد تغير تغيرات جوهرية بعد أن انتشرت ما أطلق عليه الموجة الثالثة للديمقراطية بمعني تحول دول متعددة من نظم سياسية شمولية وسلطوية, إلي نظم ديموقراطية لقد سادت هذه الجولة الأولي تجاوزات متعددة, وبرزت فيها سلبيات متعددة تتعلق بالسلوك المعيب لعدد من المرشحين من مختلف التيارات السياسية, بالإضافة إلي ضعف التمسك بالقيم الليبرالية لدي جماهير الناخبينالتغير من الاعتماد علي السلطة إلي تحمل المسئولية الفردية في مجال صنع القرارات المختلفة, التغير من السلبية إلي المشاركة الإيجابية وهذا التحول يتم في العالم الآن تحت ضغوط العولمة السياسية من جانب, والتي ترفع شعارات الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان, وتصاعد المطالب داخل العديد من المجتمعات لتحقيق الديمقراطية. ترفع هذه المطالب أساسا الأحزاب السياسية المعارضة وطلائع المثقفين التقدميين, بالإضافة إلي مؤسسات المجتمع المدني, والتي أصبحت تلعب أدوارا فاعلة سواء علي المستويات المحلية أو الإقليمية أو العالمية. وإذا كان التعريف العلمي للتحول الديمقراطي مهمة سهلة وميسورة, فإن ممارسته في التطبيق تعد عملية غاية في الصعوبة والتعقيد. وذلك لأن التحرر من الإرث السلطوي, والذي يتمثل عادة في سيطرة حزب وحيد علي جميع مقاليد السلطة في البلاد بما ينعكس علي الانفراد باتخاذ القرار, ليس مسألة هينة. كما أن المقاومة التي يبديها من سبق لهم أن تمتعوا بممارسة السلطة المطلقة بغير رقابة عادة ما تكون شرسة, لأنها تحرمهم من امتيازات مهولة يتمتعون بها. ولا ننسي في هذا المقام التعريف الوجيز الذي سبق للمفكر الفرنسي الكبير ريمون آرون أن صناعة حين ذكر أن السلطة تعني الامتيازات! ومما لا شك فيه أن التحول الديمقراطي يحتاج إلي إدخال تعديلات دستورية علي الدستور القائم كما فعلت مصر عام2005, أو صياغة دستور جديد يعيد تنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. ويمكن لنا أن نفهم بشكل أعمق العمليات التي ينطوي عليها التحول الديمقراطي لو حللنا تجربة أوروبا الشرقية, والتي تحولت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من الشمولية إلي الديمقراطية. وقد نشر أستاذ من جامعة مينوسوتا الأمريكية بحثا مهما يثير فيه مشكلات التحول الديمقراطي في ضوء خبرة دول أوروبا الشرقية, عنوانه الدال السفر خلال طريق غير معبد! ويقصد أن هذا التحول ليس مسألة سهلة, لأنه سيواجه مصاعب وعقبات لا حدود لها. وهو يطرح مجموعة من الاسئلة التي تستحق التأمل العميق. أولها ما الذي ينبغي تغييره إذا أردنا أن نتحول من السلطوية إلي الليبرالية, وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير سيحدث من تلقاء نفسه أم لابد من إدارته؟ وسؤال أخير بالغ الأهمية, وهو هل يمكن لثقافة بكاملها أن تتغير( ويقصد بها الثقافة السلطوية) وتحل محلها ثقافة أخري( ويقصد بها الثقافة الليبرالية). ونريد أن نبدأ بالإجابة عن هذا السؤال الأخير, لأنها أحد مفاتيح فهم ما حدث في الجولة الأولي من انتخابات مجلس الشعب في مصر. لقد سادت هذه الجولة الأولي تجاوزات متعددة, وبرزت فيها سلبيات متعددة تتعلق بالسلوك المعيب لعدد من المرشحين من مختلف التيارات السياسية, بالإضافة إلي ضعف التمسك بالقيم الليبرالية لدي جماهير الناخبين. وليس أدل علي ذلك من مقاومة بعض أجنحة السلطة للتحول الديمقراطي, وذلك بمحاولة التشبث بالمناصب القديمة التي كانت تعطي لهم السلطة والنفوذ, ولجوء عدد من المرشحين إلي استخدام سلاح المال لشراء الأصوات, بالإضافة إلي استخدام العنف والبلطجة لردع الناخبين أو ترويعهم أو منعهم من أداء واجباتهم الانتخابية. بعبارة موجزة كشفت الانتخابات عن الملامح السلبية لثقافة متخلفة وعاجزة. ويدو تخلف الثقافة في ضياع الفرد وحريته في اتخاذ القرار في خضم السلطة الأبوية القاهرة, والتي تتمثل في سيطرة شيوخ العائلات الكبيرة والقبائل في الصعيد ودفعهم من ينتسبون إليها إلي التصويت لمرشح قريب من العائلة أو القبيلة بغض النظر عن أهمية مقارنة برامج المرشحين والمفاضلة بينها. بعبارة أخري ساد في الصعيد علي وجه الخصوص التصويت علي أساس العصبيات. وهذا السلوك البدائي يكشف عن مدي تخلف الثقافة السائدة وضرورة تغييرها لو أردنا أن ننتقل من السلطوية إلي الليبرالية. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا عن طريق نشر قيم الثقافة المدنية, التي تنطلق أساسا من احترام الفرد ككائن مستقل له حقوق سياسية واقتصادية وثقافية وعليه واجبات. بعبارة أخري ترسيخ قيمة المواطنة في المجتمع, ورفع الوعي الاجتماعي بما يسمح للجماهير أن تميز بين من يعملون للصالح العالم ومن يعملون للصالح الخاص. كما أن انتشار استخدام العنف علامة علي أن مجتمعنا مازال بعيدا عن احترام القيم الديمقراطية التي تحمي حرية الاختيار, وتتيح للأفراد وفق إرادتهم الحرة اختيار من يرونه أصلح من المرشحين للانتخابات, بناء علي مفاضلة عقلانية بين البرامج الانتخابية لهم. أما استخدام البلطجية لترويع الناخبين أو لردع الخصوم, فهو يدل علي وجوب أن نعيد النظر في برامج التنشئة الاجتماعية, ابتداء من الاسرة وانتهاء بالمدرسة والجامعة ولا ننسي في ذلك الدور المهم للإعلام. نحن في حاجة في الواقع للقضاء علي ظاهرة التخلف الاجتماعي السائدة, والتي تنعكس سلبا علي السلوك السياسي للجماهير إلي ثورة كاملة الهدف منها إعادة صياغة كاملة للانساق الأساسية في المجتمع. إعادة صياغة للنسق السياسي أولا للانتقال النهائي من السلطوية إلي الليبرالة, وتطبيق مفردات المثال الديمقراطي وهي حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم والانتخابات الدورية النزيهة واحترام مبدأ تداول السلطة, وإعادة صياغة للنسق الاقتصادي بحث لاتترك مقاليد البلاد الاقتصادية للسماسرة والمضاربين من رجال الأعمال المغامرين, الذين يقنعون بأن يكونوا وكلاء للشركات الأجنبية, أو يكتفوا بالترويج للسلع الاستهلاكية, بدون أي سعي جاد لإقامة المشاريع الصناعية والزراعية والتجارية. ولابد من دور فاعل للدولة في مجال التخطيط التأشيري للتنمية الاقتصادية وفق خطة تشجع علي الاستثمار في القطاعات المنتجة. ولابد من إعادة صياغة النسق الاجتماعي بحيث تقل الفجوة الطبقية بين الأغنياء المترفين الذين كونوا ثرواتهم من الفساد المستشري, والفقراء البائسين الذين يعانون للبقاء علي قيد الحياة. وأخيرا فإن النسق الثقافي يحتاج إلي إعادة صياغة شاملة لتحل قيم التقدم محل قيم التخلف السائدة. تحول ديمقراطي من السلطوية إلي الليبرالية والديمقراطية نعم! ولكن أيضا عدالة اجتماعية, وقيم اجتماعية عصرية تدفع بالمواطنين إلي أن يعيشوا عصرهم بدلا من أن يتعبدوا في كهوف الماضي, ويجترونا الأفكار القديمة البالية نقلا عن الكتب الصفراء, أو إعادة إنتاج للتفسيرات الدينية الرجعية التي لم تعد تساير روح العصر. وفي ضوء ذلك يمكن القول أن عملية التحول الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة, وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبري متكاملة من التحولات. ومن بين أهم هذه التحولات مايلي: التغير من الاعتماد علي السلطة إلي تحمل المسئولية الفردية في مجال صنع القرارات المختلفة, التغير من السلبية إلي المشاركة الإيجابية والتي تعني الالتزام بالدفاع عن قضايا قد تؤدي إلي الصراع, التغير من اتخاذ مواقف المعارضة المطلقة إلي تبني منظورات تعاونية, تميل إلي قبول الاختلاف, التغير من مناخ اليأس والقدرية إلي مناخ الثقة بالذات والقدرة علي التحكم في المصير, الانتقال من التفكير الذي يقوم علي ثنائية الخطأ والصواب إلي المنظور الديمقراطي في التفكير الذي ينزع إلي قبول الحلول الوسيطة, التغير من التأييد السطحي للنظام إلي التأييد الايجابي للنظام الجديد,أو علي الأقل الانخراط في معارضة بناءة, الانتقال من القدرية التي يسيطر عليها الماضي إلي التوجهات المستقبلية, التغير من الشك الي الثقة الفعالة, الانتقال من السرية إلي الانفتاح في ضوء الشفافية, الانتقال من المطابقة المفروضة إلي الالتزام الشخصي والانضباط الذاتي, وأخيرا الانتقال من الانعزال الثقافي إلي العضوية الفاعلة في المجتمع العالمي.