قلبي ينفطر عندما استمع لمشكلات البسطاء في بلدي.. فهؤلاء تسودّ الدنيا أمام أعينهم، وتتوقف بوصلة حياتهم عندما يُصاب عضو في الأسرة بمرض، أو يمني بالفشل في تعليم أو عمل. ولأنهم لا يصلون إلي الإعلام ونجومه، ولا ينجحون في ايصال أصواتهم إلي من يستشعرون فيه القدرة علي مساعدتهم، فإن مشاعر الوحدة والعزلة والاغتراب تسيطر عليهم.. إنهم معجونون بالطيبة وقلة الحيلة والمشكلة عندما تصيبهم تقلب حياتهم. هكذا كانت حالة محمود، السائق الذي كان يقلّني لأول مرة في مشوار داخل القاهرة، ورغم عدم المعرفة المسبقة لكنه فتح الملف الذي يؤرقه، لم يكن يطلب مشورة لكن يسعي لتوصيل رسالة توعية للآباء الطيبين أمثاله. إنه يري في نفسه أبا مثاليا، لا يتواني عن بذل كل جهد، للعمل من أجل توفير احتياجات أبنائه الثلاثة، حتي إنه يقضي طوال الليل يقود السيارة لحساب إحدي الوكالات، حتي يعينه الدخل الاضافي من هذا العمل علي تغطية نفقات الأسرة، وسد العجز في راتب الوظيفة. عيناه متورمتان من قلة النوم، وشدة الارهاق ويتمني لو أن ابناءه يشعرون بعد كل ذلك بالرضا، فطلباتهم لا تنتهي، لكن قصة ابنه الوحيد المراهق.. بدأت من تقليد أقرانه في الملابس، والموبايلات، والخروج والفسح. لقد كان طالبا متفوقا فيما مضي، شديد الحساسية للتوجيه، يحترم المدرسين، ويقدر مشقة الأب الذي يحاول توفير نفقات الدروس الخصوصية، ولكن الوالد المكافح بدأ يشعر بتغييرات جذرية علي سلوك الابن.. فمعظم الأوقات يجده نائما، والاهتمام بالمذاكرة تحول إلي لامبالاة، وتراجع الطموح بالحصول علي مجموع كبير في الثانوية العامة حتي يتمكن من دخول كلية الهندسة، وتواري حلم "المهندس" حتي لم يعد يذكر ذلك أمام الأسرة. قرر الأب أن يغيب عن العمل في ذلك اليوم، ويتوجه إلي المدرسة للسؤال عن أحوال ابنه، واكتشف المصيبة الأولي: "الطالب الذي كان متفوقا فيما مضي من سنوات.. مفصول نظرا لتكرر الغياب.. وعدم استدعاء ولي الأمر!!" والمصيبة الثانية: إنه كذاب.. وأخفي "جوابات" المدرسة وكان يتسلمها من البريد ويمضي بالاستلام بدلا من الأب. أما المصيبة الثالثة: والتي شعرت وأنا استمع إلي تفاصيلها بالدوار، والشفقة علي الأب والأسرة، فهي أن الطالب، ابن المواطن الطيب مدمن للمخدرات! وبدأت رحلة هذا الأب المسكين في انقاذ فلذة كبده من براثن الادمان. ويحكي مغامرات شاقة في تتبع تجار السموم، الذين كانوا يروجون الحبوب.. والحقن لهؤلاء الشباب المغلوبين علي أمرهم، في المقاهي، ومحلات الألعاب والانترنت، وعلي نواصي الشوارع، ويجمعون يوميا حصيلة ما كان سيذهب للدروس الخصوصية، وإن لم توجد أموال لدي الشباب المدمن البائس، فيأخذون منهم أجهزة المحمول، بل وحتي ملابسهم وأحذيتهم! وخلال يوميات التصدي لهذه المصيبة، قام الأب المكلوم بكل الأدوار الشرطية، والصحية، والاجتماعية. أبعد أولا الابن عن الشلة الفاسدة من الأصحاب، واغلق عليه غرفة بالشقة ولازمه.. بكي معه.. عندما اشتد به ألم الإدمان.. أخذه في حضنه وكأنه رضيع في شهوره الأولي، سقاه اللبن بالحليب، وأطعمه بيديه.. ضربه عله يستيقظ من ذلك المارد الذي يسري في دمه ويلح عليه لطلب المزيد من الجرعات.. نام إلي جواره دون نوم حقيقي.. وهو يراقب انفعالاته والعرق يتصبب من جبينه.. يأخذه إلي الحمام ويغلق وراءه الباب خوفا من هروبه.. و"يحمّيه" كطير منتفض.. ويعود به إلي الغرفة ويحكم غلقها، تحسبا لأي ردود أفعال. كان الأب يحكي ودموعه تنهمر، وهو يستعيد تلك اللحظات القاسية ويداه ترتجفان محاولا احكامهما علي مقود السيارة. لم يذهب إلي طبيب أو مستشفي... لأن التكلفة لايقدر عليها، ولم يستعن بأحد من الاخصائيين، غير صديق قديم، من أيام الطفولة كان يتولي معاضدته النفسية بالاطمئنان عليه، والشد من أزره.. وهو الذي شجعه بالنصيحة: "لا مفر.. غير ما أقدمت عليه". ظل علي هذا الوضع أكثر من شهرين، لا يفارق ابنه، وقراره الوحيد، إما أن ينقذه أو يقتله!.. هكذا قال.. وقد هربت من لسانه عبارة القتل فخرجت ومعها أجهش بكاء. وتدريجيا بدأ الابن يستجيب، بعدما انسحبت تدريجيا من دمه السموم.. وخرج لأول مرة برفقة والده إلي المسجد القريب للصلاة.. وتضرعا إلي الله لكي ينجدهما ويتم شفاءه. ثم تكررت مرات الخروج، مرة إلي الحلاق، وأخري للسينما، وثالثة لعيادة الطبيب.. وهكذا.. والآن عاد الابن إلي المدرسة، محاولا تعويض ما فاته. لكن الأب لم يعد بعد من هذه الرحلة القاسية، بل مازال مهتزاً، مضطرباً، يستعصي عليه النوم، تطارده الكوابيس، ولا تفارقة تلك المشاهد القاسية التي عايشها كدهر طويل. ربما كان شفاؤه الوحيد، أن يحكي قصته مع ابنه لكل أب وأم، ربما تنفع النصيحة!