إذا كان الركود العالمي العميق السائد حاليا يزعج العالم فإن الشيخوخة السكانية تستحق هي الأخري أن تثير انزعاجه. فالشيخوخة السكانية حينما تأتي سوف تعني تباطؤ النمو وانخفاض الإنتاجية ونقص العمالة وزيادة الإنفاق العام. وهناك من يتوقع أن يكون عام 2050 عاما فاصلا يتزايد فيه إحساس العالم المتقدم بوطأة آثار الشيخوخة السكانية. ويري صندوق النقد الدولي أنه إذا كان الركود الحالي سيكلف العالم المتقدم عجزا في موازناته لا يقل عن 8% من إجمالي الناتج المحلي فإن تكاليف مثل هذا الركود في المستقبل ستكون أثقل وطأة بسبب تكاليف الشيخوخة السكانية. وتقول مجلة "الايكونوميست" إن العالم المتقدم يشيخ سكانيا بمعدل أسرع من بلدان العالم النامي ولكن الفجوة الزمنية التي تفصل بين العالمين لا تتجاوز بضعة عقود. وفي التنبؤات التي تصدرها الأممالمتحدة كل عامين عن حالة السكان في العالم تشير الأرقام إلي أن متوسط الأعمار علي المستوي العالمي سيزيد من 29 سنة حاليا ليصبح 38 سنة عام 2050. وأن 11% فقط من سكان العالم البالغ تعدادهم 6.9 مليار نسمة هم الذين تخطوا سن الستين. وإن هذه النسبة سوف تزيد لتصبح 22% "أي إلي الضعف" في عام 2050 عندما يصبح تعداد سكان العالم أكثر من 9 مليارات نسمة. أما في الدول المتقدمة وحدها فستكون هذه النسبة 33% وبعبارة أخري فإنه في عام 2050 سيكون واحدا من كل ثلاثة من سكان الدول المتقدمة من أرباب المعاشات وأن واحدا من كل عشرة سيكون فوق الثمانين من العمر. وهذا التحول حتي وإن بدا بطيئا ستكون له مع الوقت آثار واسعة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. وقد بدأت الدول القليلة التي وصلت بالفعل إلي مرحلة الشيخوخة السكانية تعاني عمليا من هذه الآثار. وما هو واضح علي المستوي العام لهذه الدول حتي الآن أن أعداد العمالة تتقلص وأعداد أرباب المعاشات تتزايد وبحلول عام 2020 ستصبح الشيخوخة السكانية ظاهرة مرئية بالنسبة للجميع. وطبيعي أنه لا مهرب من هذه الظاهرة فهي قدر مؤكد الحدوث بالمقارنة إلي كوارث أخري طبيعية أو من صنع الإنسان وذلك لأن الملياري نسمة الذين سيصبح عمرهم فوق سن الستين بحلول عام 2050 هم أناس ولدوا فعلاً ويدبون علي سطح الأرض. وقد يسأل سائل عن أسباب الشيخوخة السكانية.. والسبب الأول في الحقيقة هو أن أعمار الناس تطول أكثر من المعتاد وأن هذا الاتجاه بدأ يتكون مع انفجار الثورة الصناعية ليكتسب قوته بعد ذلك. ففي عام 1900 كان متوسط الأعمار علي مستوي العالم كله حول 30 سنة وفي الدول المتقدمة أقل من 50 سنة.. أما الآن فإن الرقمين هما 67 عاما ثم 78 عاما علي التوالي. ولكن الشيء الذي ينبغي أن نسعد به هو أن كبار السن يظلون لفترات طويلة هذه الأيام في صحة ولياقة ونشاط لا يمكن إنكارها. أما السبب الثاني والأهم للشيخوخة السكانية فهو حرص الناس علي إنجاب عدد أقل من الأطفال. وهذا يعني أن الشباب يصبحون أقلية بالقياس إلي عدد الشيوخ. وتجدر الإشارة إلي أن الاتجاه إلي إنجاب أطفال أقل قد بدأ قبل أن تطول متوسطات الأعمار وأنه بدأ أولاً في الدول الغنية لتصل عدواه بعد ذلك إلي البلدان النامية. ففي مطلع سبعينيات القرن الماضي كان معدل الخصوبة علي مستوي العالم 4.3 طفل لكل امرأة في سن الإنجاب أما الرقم حاليا فلا يتجاوز 1.6 طفل لكل امرأة وفي العالم المتقدم يتدني الرقم ليصبح 1.6 طفل لكل امرأة.. وتشير التوقعات إلي أن المعدل العالمي للخصوبة سيهبط إلي طفلين فقط لكل امرأة مع حلول عام 2050.. وأن تعداد سكان العالم سيبدأ في الثبات عند هذا التاريخ قبل أن يتجه إلي الهبوط بعد ذلك. وإذا حاولنا رصد ظاهرة الشيخوخة السكانية في العالم فسنجد أن اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان يعيشون بالفعل هذه الظاهرة. أما في أوروبا فسنجد أن ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا علي سبيل المثال يعيشون مرحلة الأسرة الصغيرة ويتجهون بسرعة إلي الشيخوخة السكانية وبالمقابل نجد أن فرنسا وبريطانيا ومعظم دول الشمال لديها عدد أكبر من الأطفال وهو ما يجعلها دولا أكثر شبابا وإذا كانت روسيا تتمتع بمعدل مواليد منخفض فإنها أيضا تعاني انخفاض متوسطات الأعمار.. أما الأمريكي فسيظل حتي بعد حلول عام 2050 مجتمعا شابا بفضل مرونة معدل المواليد فيها وسياسة الهجرة المفتوحة إلي أراضيها. وفي العالم النامي بوجه عام لا يوجد خوف من حلول ظاهرة الشيخوخة السكانية وستظل مجتمعات البلدان النامية مجتمعات شابة لعدة عقود قادمة قبل أن تصلها عدوي الشيخوخة السكانية. ولكن لأن هذه المجتمعات لا تتمتع بمظلات تأمين كافية لأرباب المعاشات وكبار السن فإن المشكلة فيها ستكون أثقل. وتنفرد الصين وحدها من بين كل البلدان النامية بأنها تتجه بسرعة نحو الشيخوخة السكانية بسبب سياسة تحديد النسل الصارمة التي اتبعتها في العقود الأخيرة. فعدد سكان الصين سيصل إلي ذروته عام 2030 ليصبح 1.46 مليار نسمة ثم يبدأ في الهبوط. وفي ظل الشيخوخة السكانية ستضطرب أشياء كثيرة حيث سيقل معدل النمو وتقل الإنتاجية وتقل المدخرات ويزداد العبء علي الحكومات من أجل إعالة ارباب المعاشات.. وسيقل حتي معدل التصويت في الانتخابات وبوجه عام فإن الحل الذي اقترحه صندوق النقد الدولي لهذه الظاهرة هو رفع سن التقاعد حيث يتعين علي كبار السن أن يقبلوا العمل لفترة أطول ومقابل معاشات أقل وأنه لا بديل لذلك ما لم تتقدم لنا التكنولوجيا بحلول غير معروفة لأزمة مصيرية من هذا النوع.