بكل أسف لم أستطع المشاركة في توديع رجل عظيم حمل العديد من أمانات التاريخ المصري، وأعني به السيد مراد غالب وزير الخارجية المصري الأسبق، وواحدا ممن أوكل إليهم جمال عبدالناصر مسئولية إدارة علاقتنا مع السوفيت وتبعه الرئيس السادات في ذلك، وكان هو الجسر الذي سارت عليه عمليات تحديث سلاح الجيش المصري بعد قيام ثورة يوليو، واستمر علي هذا الحال بعد هزيمة ،1967 ولم يفقد قط إيمانه بأن المقاتل المصري سيحقق النصر ولو بأقل الامكانات، وهو ما تحقق في أكتوبر 1973. وإذا كان أهل اليسار المصري يفتقدونه، فمن المؤكد أن أقطاب الاقتصاد الحر يعلمون كم ساهم الرجل في الترويج للتبادل التجاري بين مصر وبين دول الاتحاد السوفيتي، سواء هو أو السفير الراحل صلاح بسيوني. وإذا كانت مصر قد افتقدت الرجل بعد عمر عاشه وهو يغزل من يومه العادي كرامة لمجموع المصريين، فلا أقل من أن تلتفت بناته كي تبحث في أوراقه عن مذكراته، فهي ملك للمصريين، فهذا الرجل في حدود علمي كان في أول اتصاله بالثورة هو الطبيب الذي أوكل إليه جمال عبدالناصر مرافقة عزيز باشا المصري أحد كبار الثوار في التاريخ المصري منذ أوائل القرن العشرين، وهو من عينة جمال عبدالناصر سفيرا لنا في موسكو بعد قيام ثورة يوليو، وكان هذا حرصا من جمال عبدالناصر علي أن يظل الثوري المحترف عزيز المصري بعيدا عن اليوم العادي في القاهرة، ذلك أن أي "حال مائل" لن يستسلم له عزيز المصري، وبالفعل سافر مراد غالب برفقة عزيز المصري لينسج علاقات مع القادة السوفيت، وهي التي تطورت في العهد الناصري، فاستفادت روسيا بموقع دافئ علي البحر المتوسط، واستفادت مصر بتسليح وتدريب القادة العسكريين. وإذا كان التاريخ المصري قد حمل كثيرا من الأوجاع في العلاقات المصرية السوفيتية، فهو قد حمل من قبل المزيد من الأوجاع في علاقات مصر مع بقية الدول الكبري، وشاء الاتحاد السوفيتي أن يفقد مكانته في الشرق الأوسط حين أراد أن يوظف علاقاته بمصر في غير ما تتوقعه مصر، فكان قرار السادات بطرد الخبراء الروس فيما قبل حرب 1973. إن الكثير من الأسرار عاشها الرجل ولابد أنه قد قام بتدوين مذكراته، وإن لم يكن قد قام بتدوين تلك المذكرات، فحلمي أن يقوم الباحثون في المعهد الدبلوماسي برصد كل ما أرسله الرجل من تقارير من موقعه في موسكو إلي القاهرة، فنحن البلد الوحيد الذي لا يملك ذاكرة دبلوماسية علي الرغم من أن سفاراتنا منذ قيام ثورة يوليو قد شهدت العديد من الرجال أصحاب القامة الفارعة العالية، وشهدت أيضا العديد ممن كان يغضب عليهم الرئيس عبدالناصر فيرسلهم إلي مناصب بعيدة. وأتمني من أعضاء منظمة التضامن أن يصدروا كتابا تذكاريا عن الرجل العظيم الذي انطوت صفحته في وقت نحن نحتاج إلي موجز خبرته خصوصا أن موسكو تصحو من جديد علي الخريطة العالمية، ولتلك الصحوة جذور حتي وإن اختلفت الاتجاهات الجديدة عن القديمة. رحم الرجل بقدر ما أعطي الوطن، فقد كان عطاؤه - رغم الصمت - عظيما وعملاقا.