في سوق عشوائي تحول فيه الأسمنت والحديد إلي سلع استراتيجية مثلها مثل الخبز للمواطن المصري.. جاءت القرارات التنظيمية التي أصدرها رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة أمس الأول محاولة حكومية جديدة لوضع ضوابط لتنظيم السوق الذي تركته الحكومة طويلاً خالياً من الضوابط. إلا أن تلك القرارات هي في حقيقتها قرارات سياسية تحاول بها الحكومة تهدئة الأسعار في السوق والتي ارتفعت بمعدلات غير مسبوقة - بعضها بمبرر وبعضها بلا مبررات واضحة - في وقت تحمل فيه الدولة عصا الدعم الذي منحته لتلك الصناعة وتعاني في الوقت نفسه من توابعه علي عجز الموازنة وعلي الأسعار والتضخم. ويبدو أن تلك القرارات قد جاءت بعد سلسلة طويلة من التفاوض بين الدولة ومنتجي الحديد والأسمنت نجحت في تهدئة الأسعار قليلاً إلا أنه سرعان ما انتهت الهدنة لتبدأ حرب الأسعار مرة أخري في القطاعين.. في وقت يستفيد منه هؤلاء المصنعون من دعم الطاقة في زيادة التصدير. وتفتح تلك القرارات أول مواجهة عنيفة بين الحكومة والصناعة في وقت اعلنت فيه الدولة انسحابها من الانتاج واكتفاءها بدور المراقب والمنظم وكان هناك شعور بأن تلك المواجهة لن تحدث خاصة وأن حكومة الدكتور نظيف تحمل بين وزرائها عدد من رجال القطاع الخاص وراهن كثيرون علي انحيازها لهم. غير أن ما حدث كان عكس ذلك. فرغم أن الدولة اعترفت في بيانها بارتفاع مدخلات صناعات الحديد والأسمنت مؤخراً إلا أنها اشارت إلي أن "الأسعار المحلية قد فاقت بشكل ملموس الارتفاعات في أسعار المدخلات المحلية والمستوردة".. في الوقت الذي تحصل فيه تلك الصناعة علي دعم للطاقة.. الأمر الذي دعا لتدخلها حتي لا يتسرب الدعم للخارج وللسيطرة علي التضخم في الأسعار علي حد قول مصادر حكومية. الصناعيون علي الجانب الآخر يتهمون الدولة بالردة عن سياسات السوق والمنافسة الحرة.. قائلين بأن القرارات هي تدخل اداري "كنا نظن أن الحكومة المصرية قد عزفت عنه إلا أنه ربما عادت "ريما لعادتها القديمة".. علي حد تعبير أحد الصناعيين. ووصف تقرير لشركة بلتون للاستثمار القرارات بأنها "تدخل عشوائي تحاول به الحكومة اصلاح خطأ ارتكبته هي في الأساس وهو دعم الطاقة". وأضاف التقرير ان الحكومة كان اجدي بها ان تعالج اسعار الطاقة بشكل اكثر ملاءمة بدلا من أساليب التدخل القديم. لكن يبدو ان قرار رفع الدعم عن الطاقة للمصانع سيستغرق وقتا قد يمتد الي 5 سنوات رغم توصية لجنة الخطة والموازنة التي يرأسها أحمد عز نفسه والمجلس التصديري الذي يرأسه ناصف ساويرس ايضا بذلك فأي خفض في دعم الطاقة سينتقل تأثيره علي المستهلك رأسا وبذلك يزداد التضخم وهو ما لا تتحمله الحكومة حاليا. ورغم اعتراف الحكومة بان الاجراء هو تدخل اداري وقد يكون مؤقتاً، إلا أن مثل تلك الاجراءات تأتي في صميم عملها كمراقب ومنظم للسوق ويرصد بيان وزارة التجارة عدد الحالات المشابهة في الهند وماليزيا وتركيا وغيرها.. فهو تدخل في سوق تسوده "التشوهات" وإذا كان هناك خطأ فلا يجب أن نستمر في قبوله طويلا - علي حد قول المصادر. وفي ظل صراع تكسير العظام بين الحكومة والصناعة.. تبقي تساؤلات مفتوحة هل ستؤدي تلك القرارات في الواقع الي تخفيض اسعار الاسمنت والحديد أم ان الأمر سيؤثر فقط علي الصادرات ولن يكون له تأثير علي السوق المحلي؟ الصناعيون يؤكدون ان خفض الأسعار لن يحدث لأن مدخلات الصناعة لا تزال مرتفعة ولأن خفض التصدير سيرفع من الانتاج المتوفر محليا وبالتالي سيؤدي الي خفض الطاقات للمصانع وليس خفض السعر!! وفيما يقدر البعض خسائره في الأسمنت بحوالي 200 مليون جنيه فإن الحكومة علي الطرف الآخر تقول ان ارباح صناعة الأسمنت وصلت إلي 48% والحديد أقل من ذلك قليلا فلا مانع من نقل بعض تلك الأرباح للمستهلك في وقت تقدم لهم الدولة الدعم علي الطاقة. وبعيدا عن الاتهامات المتبادلة فإن المؤكد ان دعم الطاقة للصناعة اصبح يمثل التشوه الأكبر الذي يهدد تنظيم تلك الاسواق.. ذلك الدعم الذي يحتاج لوقفة حاسمة كي تصبح الصناعة المصرية بحق منافسة لا يحصد أرباحها الكبار علي حساب المستهلك.. ولا تتحمل فيها الموازنة ثمنا لدعم ربات البيوت في أسبانيا. وتلك قضية أخري.