مصر.. إلي أين؟ (4-4) في الحوار الراقي والمحترم الذي دار في المؤتمر السنوي الثاني والأربعين لجماعة الإدارة العليا .. اختلفت مع موقفين: موقف الحكومة التي "جعلت من البحر طحينة".. وقالت إنها تجاوزت استحقاقات "الإصلاح" الاقتصادي وانتقلت إلي تحقيق "النهضة".. وموقف المعارضة التي أمعنت في رسم صورة قاتمة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ليس فيها من الألوان غير اللون الأسود والخالية من أية إنجازات أو إيجابيات. وقلت في مداخلتي بهذا المؤتمر المهم أن إنكار تحقيق اي إنجاز لا يتنافي فقط مع الحقيقة، وانما أيضا مع طبائع الأمور. ولذلك فان التمسك بسياسة إنكار تحقيق اي شئ يؤدي إلي أضعاف مصداقية المعارضة ويعطي للحكومة فرصة التشكيك في كل ما تقوله. فهناك بالفعل "إنجازات" حققتها الحكومة ، لكن هناك عدة مشاكل مع هذه الإنجازات : 1- إنها انحازت بطئيه وهزيلة: فحتي إذا أخذنا الأرقام الوردية التي قدمها الدكتور عثمان محمد عثمان وزير التنمية الاقتصادية علي علاتها، والتي نشرناها ونشرتها كل الصحف الأخري بالتفصيل، وقمنا بمقارنة هذه الأرقام بالمؤشرات الاقتصادية لبلد مثل ماليزيا، ينتمي مثلنا إلي العالم الثالث، وكان حتي عهد قريب مضربا للأمثال في الفقر والتخلف، ولا يزيد عدد سكانه علي 26 مليون نسمة، لوجدنا ان قيمة إجمال صادراته العام الماضي تجاوزت 148 مليار دولار اي ما يعادل أربعة عشر مثل قيمة إجمالي الصادرات المصرية عام 2005. كما ان معدل نمو الاستثمار المحلي الاجمالي في الفترة من عام 2000 إلي عام 2004، والذي هو المحرك الأساسي لاي نمو اقتصادي كان سلبياً. ورغم انه تحول من معدل سلبي إلي معدل ايجابي عام 2004 فانه لم يتجاوز 2.4% بينما كان يبلغ 13% في بلد مثل بلغاريا و12.5% في رومانيا و 12.3% في تركيا. كما ان متوسط نسبة الاستثمار المحلي الاجمالي في مصر لم يتجاوز 17.9% بينما كان يبلغ 26.4% في المجر و 26% في تونس و23.9% في ماليزيا و 23.7% في المغرب. وارتبط هذا بتدني معدل الادخار المحلي الاجمالي إلي 14.6، مما أوجد فجوة يبن الادخار والاستثمار ترتب عليها زيادة الدين العام الداخلي من 70.5% من الناتج المحلي الاجمالي عام 98-1999 الي 101% عام 2004-2005 وفقاً لبيانات البنك المركزي. 2- إنها إنجازات عشوائية: حيث نري ان السمة الغالبة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية هي غياب التخطيط. والدليل علي ذلك ان فكرة إحياء المشروع النووي المصري - بكل ما تتطلبه من تغييرات جذرية في الأولويات وتخصيص الموارد والتمويل - لم تكن مدرجة بأية خطة من الخطط المعلنة للدولة. وحتي بعد إحياء هذا المشروع الحيوي والاستراتيجي .. فلنتأمل الجدل الدائر حول الموقع الأفضل لبناء المحطات النووية ، والصراع بين مصالح السياحة والمستثمرين السياحيين من جانب وبين المهتمين بالمشروع النووي من جانب آخر، وما يترتب علي هذا الصراع من احتمال إهدار سنوات وملايين الدولارات أنفقناها من قبل لتحديد موقع مثالي للمحطات النووية في منطقة الضبعة، ويرفضه البعض اليوم لأسباب متعلقة بالاستثمار السياحي الذي تم "التخطيط" له في غياب "خطة" المشروع النووي! وهناك المئات من الشواهد الأخري، مثل تسمم المياه بمحافظة الدقهلية الذي أودي بحياة مواطنين، ومثل غرق العبَّارة إياها، ومثل حوادث القطارات، ومثل كوارث المستشفيات، ومثل انهيار نظام التعليم... التي تدل كلها علي أننا لا ننظر الا تحت أقدامنا، كما تدل علي ان فكرة التخطيط ذاتها غائبة تماما، أو أنها اضعف من ان تصمد أمام الفساد والإهمال. ولان الشيء بالشيء يذكر .. فان هناك إحصائية مذهلة تقول ان قضايا الفساد وصلت الي 72 ألف قضية في العام الماضي، اي بمعدل قضيتين كل دقيقة. وهذا تطور خطير لانها لم تكن تتجاوز قضية واحدة كل 7 دقائق منذ خمس سنوات! هذه "الاكتشافات" لحقائق مريرة مثل حرمان عشرات القري من مياه الشرب النقية، واختلاطها بمياه المجاري إذا وصلت إليها، ومثل الأوضاع المزرية لمرافق حيوية كالسكك الحديدية والنقل البحري.. تجعلنا نتوقف طويلا أمام الفجوة الواسعة بين التصريحات والأرقام الرسمية من جانب والواقع من جانب آخر، وتجعلنا نتساءل عن جدوي إنفاق مليارات الجنيهات علي مشروعات للبنية الأساسية ينهار بعضها أمام أعيننا! 3- إنها إنجازات تستأثر بثمارها أقلية محظوظة: فكل التقارير المحلية والدولية تؤكد بالأرقام ان الجانب الأعظم من عائد برامج " الإصلاح" الاقتصادي يذهب الي جيوب القلة، بينما الأغلبية الساحقة من المصريين لا تشعر بهذا العائد، ولا يصل إليها منه شيء يعتد به. بل ان مساحة الفقر تزداد وصعوبة الحياة تتضاعف حتي علي الطبقة الوسطي.