تبلورت إجابتان في الحوار الذي دار في أروقة المؤتمر الثاني والاربعين لجماعة الإدارة العليا، الذي اختتم أعماله امس في الاسكندرية، والذي اجتهدت خلاله كوكبة من المفكرين والمثقفين والنشطاء المصريين من شتي المدارس الفكرية والسياسية للاجابة عن السؤال المحوري: مصر.. إلي أين؟! خلاصة الاجتهاد الاول هي ان مصر الرسمية تمتلك "رؤية" استراتيجية مدروسة ومحكمة "لا تخر منها المياه" للتحولات الدراماتيكية الاقليمية والدولية وتنتهج - بالفعل - سياسات تكفل تعظيم "الدور" المصري إقليميا ودوليا، فضلا عن الحفاظ علي الامن القومي المصري وسط هذه الانواء العاتية وان المرحلة القادمة "يبرز فيها الدور المصري" وستتحول مصر من "الدفاع إلي الهجوم". وان هذا يسير بالتوازي مع قطع مصر شوطا كبيرا علي طريق "الاصلاح" الاقتصادي يؤهلها للتطلع الان للتقدم نحو "النهضة". هذا الاجتهاد الذي عبر عنه أساسا الخبير والمفكر الاستراتيجي الدكتور أحمد عبدالحليم والدكتور عثمان محمد عثمان وزير التنمية الاقتصادية، ناطحه بالرأس اجتهاد آخر مناقض تماما علي طول الخط. وعلي سبيل المثال فان المفكر المبدع جميل مطر رسم صورة مغايرة تماما، واقل احساسا بالارتياح لوضع مصر في ساحة اقليمية ودولية تمثل الخطوط العريضة التالية أهم ملامحها: * دخول العصر الامريكي نهاياته عالميا. * في الشرق الاوسط: استمرار النموذج الأمريكي.. لكن مع تراجعه المطرد. * تململ حلفاء أمريكا وتعاظم مخاوفهم من عواقب التورط في الوحل الامريكي بالشرق الأوسط. * تعاظم قوة إيران التي تبدي مهارة دبلوماسية غريبة الشأن في بناء التحالفات. * استمرار قوة إسرائيل "لكن مع اتجاه للتراجع علي عكس إيران". * استمرار تصفية القضية الفلسطينية بمشاركة أمريكية وأوروبية واسرائيلية، والجديد ربما بمشاركة عربية ايضا للاسف.. وقد بدأت بالفعل بوادر مواقف تقف فيها بعض البلاد العربية الي جانب اسرائيل ضد ايران.. وليس من المستبعد إذا ما استمر هذا الاتجاه ان تقف بلاد عربية مع إسرائيل ضد الفلسطينيين. * تزايد احتمالات تقسيم العراق وانفصال الاكراد. * استمرار ضعف وتهافت جامعة الدول العربية. وفي ظل هذه الصورة المشحونة بالمخاطر يتمني جميل مطر ان تتوقف الحكومة المصرية عن انتهاج "سياسة الحد الأدني" التي لا تليق بمكانة مصر ولا تخدم مصالحها، ويتساءل عن قدرة الحكومة المصرية بأوضاعها الحالية علي حشد طاقات المجتمع من أجل حماية الامن القومي، وهل يمكن ان تكرر تجربة اكتوبر 1973، ويطرح في هذا السياق سؤالا محددا: هل تملك الحكومة تحريك القطاع الخاص الان وحشده في اطار توجه استراتيجي محدد؟ وقبل أن أجيب أنا أو أنت علي هذا السؤال الذي يبدو لأول وهلة خارج السياق - وهو ليس كذلك بأي حال من الأحوال - فإن جميل مطر يحيلك إلي حادثة إعصار كاترينا الذي هب علي السواحل الامريكية واغرق لويزيانا. عندئذ فشل الرئيس الامريكي جورج بوش وإدارته في تحريك القطاع الخاص للتفاعل مع هذه الكارثة.. وربما كان تصويت غالبية الامريكيين في انتخابات التجديد النصفي الاخيرة عقابا له علي هذا العجز. ودلالة المثال واضحة.. إذا وضعنا في الاعتبار ان قطاعات مهمة، وربما استراتيجية ايضا، من الاقتصاد المصري تخرج بصورة متزايدة من السيادة المصرية الي الهيمنة الأجنبية، ومنها قطاع الأسمنت علي سبيل المثال وليس الحصر. وهذا التخوف من الاحتمالات المتزايدة والعواقب الوخيمة، السياسية والاقتصادية، للسيطرة الأجنبية علي الاقتصاد المصري تردد في ثنايا كلمات آخرين غير جميل مطر، منهم المهندس شريف دولار عضو امانة السياسات بالحزب الوطني الذي قدم تحليلا رصينا وعميقا للسياسات الاقتصادية المعتمدة حاليا، وارتباطها ب"توافق واشنطن" الذي يعبر عن "الأصولية الاقتصادية" في اكثر صورها تطرفا، والذي ثبت فشله في العالم بأسره، كما اكد الدكتور جودة عبدالخالق "ان الدولة المصرية لا تملك السيطرة علي مقدرات الاقتصاد". وأكد الدكتور حسن نافعة كذلك ان قدرة مصر الخارجية أصبحت شبه معدومة وان استعادة دور مصر علي الصعيدين الاقليمي والدولي تحتاج إلي إعادة النظر في أسس عملية السلام وأمور أخري كثيرة. وغني عن البيان ان هذا التحليل يتناقض تماما مع الصورة الاولي التي تقول باختصار ان الدور المصري الاقليمي والدولي يتعزز وان الامن القومي المصري اذا كان يواجه تحديات فان هذه التحديات لا تبعث علي القلق.. وان "مراجعة مصر موقفها من الملف النووي نقلة نوعية ليس فقط علي صعيد الطاقة وانما علي جميع المستويات".