خبر صغير في صفحة داخلية بجريدة "الأهرام" في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي.. كان هو كل ما جادت به قريحة الصحافة المصرية -بكل أنواعها "قومية" و"حزبية" و"خاصة" في رثائها للدكتور إبراهيم سعد الدين! ولو أن شخصاً بقامة -وقيمة- إبراهيم سعد الدين رحل عن عالمنا في أي دولة أخري تحترم علماءها ومفكريها لوضعت وسائل إعلام هذه الدولة خبر وفاته في مقدمة نشرات أخبار الإذاعة والتليفزيون، وفي صدارة الصفحات الأولي وصفحات الرأي وأعمدة كبار الكتاب بالجرائد اليومية. لكن من سوء حظ المفكر الاقتصادي الكبير الدكتور إبراهيم سعد الدين أنه غاب عنا في "رمضان" الذي حولته وسائل إعلامنا إلي شهر لتغييب العقل وإعطائه إجازة مدفوعة الأجر، لا يعلو فيه صوت علي صوت المسلسلات الدرامية وبرامج الدردشة والنميمة والتسلية السمجة التي تحظي ب "رعاية" الإعلانات. ومن سوء حظ المفكر الاقتصادي والأكاديمي والسياسي والمناضل الدكتور إبراهيم سعد الدين أنه غاب عنا في وقت اختلط فيه الحابل بالنابل واختلت المعايير لدرجة أن الكثير من "المثقفين" في هذا البلد فقدوا القدرة علي التمييز بين الدكتور إبراهيم سعد الدين والدكتور سعد الدين إبراهيم!! في حين أن المسافة شاسعة بين الاثنين وكل منهما ينتمي إلي كوكب غير الكوكب الذي ينتمي إليه الآخر. ولمن لا يعرف من الأجيال الشابة مآثر الدكتور إبراهيم سعد الدين فإنه أحد أهم المفكرين الاقتصاديين في هذا البلد، ولم يكن مجرد أستاذ تقليدي للاقتصاد والتسويق وإدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة القاهرة في النصف الثاني من القرن الماضي، وإنما كان واحداً من كوكبة وضعت لبنات مدرسة حديثة، وتقدمية، للاقتصاد السياسي، وللتنمية، ولبناء اقتصاد وطني حديث ومستقل. وفي مسيرته العلمية والعملية، الاقتصادية، والسياسية، مر بمحطات كثيرة من بينها دوره المتميز -علي الصعيد الوطني- أثناء شغله منصب نائب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ومن بينها دوره -علي الصعيد العالمي - عندما عمل خبيراً اقتصاديا بالأمم المتحدة. ومن بينها دوره -علي الصعيد السياسي- قبل وبعد إنشاء حزب "التجمع" الذي كان الأمين العام لمجلسه الاستشاري. ومن بينها دوره -علي صعيد البلدان النامية- من خلال دوره المتميز كأمين عام لمنتدي العالم الثالث، برفقة الراحل العظيم الدكتور إسماعيل صبري عبدالله لسنوات طويلة، إلي أن لحق به يوم الخميس الماضي. وهذا المنتدي يستحق وقفة خاصة، فهو يضم مفكرين ومثقفين مهتمين بمواصلة وتعميق الحوار حول شتي البدائل المتاحة في مجالات التنمية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، ولا يقتصر اهتمامهم علي الحوار فقط بل هو يهدف إلي التأثير الحقيقي والفعال علي مجتمعات العالم الثالث. ويضم المنتدي حوالي ألف شخص من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ممن تشهد أسماؤهم بالقدرة علي الفكر الخلاق والتحليل المستنير، فضلا عن أنهم خبراء في مجالات اختصاصهم أو قادة حركات اجتماعية وهذا المنتدي الذي انشئ عام ،1975 أي منذ 33 عاماً يعمل كشبكة من مثقفين من القارات الثلاثة منخرطين في حوار حول التنمية بشتي أبعادها الاجتماعية والاقتصادية في خدمة مصالح شعوب العالم الثالث. وليس هدف هذا المنتدي تدبيج البكائيات حول المظالم التي يتعرض لها العالم الثالث وإنما هدفه بالأحري "تحديد بدائل واقعية ووضع توصيات سياسية للعمل بها في مختلف المجالات المدروسة". ومن هذا المنطلق .. شارك المنتدي في تأسيس المنتدي العالمي للبدائل عام 1997 بالقاهرة. وبادر المنتدي بالاشتراك مع المنتدي العالمي للبدائل ومنظمات أخري غير حكومية بتنظيم مؤتمر "دافوس البديل" عام 1999 في مواجهة مؤتمر دافوس الشهير.. وقد كان لمؤتمر "دافوس البديل" وقع قوي من خلال المنتدي الاجتماعي العالمي في بورتو الليجري بالبرازيل الذي أصبح بدوره عنوانا مهما ل "العولمة البديلة" في مواجهة "العولمة المتوحشة". ومن أهم البحوث المستقبلية التي أشرف عليها الدكتور إبراهيم سعد الدين سلسلة من الدراسات الخطيرة عن مستقبل مصر في الكثير من القطاعات والمجالات ولو أن الحكومات المتعاقبة اهتمت باستنتاجات وتوقعات هذه الدراسات المستقبلية الخطيرة لجنبت بلادنا كثيراً من الكوارث. وكان من آخر انجازاته رعايته للدراسة الممتازة للدكتور إبراهيم العيسوي عن تطور الاقتصاد المصري منذ تبني سياسة الانفتاح، وهي الدراسة التي عرضها كاتب هذه السطور في عدة حلقات علي صفحات "العالم اليوم" نظراً لأهميتها الاستثنائية. كما كان لي شرف مزاملة الدكتور إبراهيم سعد الدين في المؤتمرات السنوية التي تنظمها جماعة الإدارة العليا، التي تعد واحدة من أكثر منظمات المجتمع المدني جدية. وفي هذه المؤتمرات التي يحضرها عادة رموز النخبة المصرية من كافة الاتجاهات والمدارس الفكرية والسياسية كان حضور الدكتور إبراهيم سعد الدين حضوراً مشعاً، يضفي علي الاجتماعات عمقاً ورقياً في التحليل والحوار الساخن والمتحضر في آن واحد. كما كان تواضع هذا المفكر الكبير مثار دهشة واستغراب الكثيرين الذين قد يختلف بعضهم معه في هذه الفكرة أو تلك لكنهم يتفقون جميعا علي احترامه والإعجاب به. ولا شك أن مؤتمرات جماعة الإدارة العليا ستفتقده كثيراً، بعد فترة قصيرة من فقدها للحضور الأخاذ لتوأمة الدكتور إسماعيل صبري عبدالله. وهذه الكلمات السريعة، والعفوية، بمثابة اعتذار لاستاذنا الدكتور إبراهيم سعد الدين عن تقصير الإعلام المصري في إعطائه بعض حقه وفضله، وباقة ورد علي قبره. ويرحمنا الله جميعا! [email protected]