في الخمسينيات كانت سيطرة الأجانب علي القطاع المصرفي شبه كاملة حيث وصل عدد البنوك التجارية في ذلك الوقت إلي سبعة وعشرين بنكا منها أربعة بنوك فقط مصرية أما الباقي فكانت بنوكا أجنبية من بينهم البنك الأهلي المصري أكبر بنك تجاري في مصر والذي كان الأجانب يسيطرون علي ادارته بالرغم من أنه كان يقوم بأعمال البنك المركزي لمصر بالنسبة لاصدار البنكنوت والرقابة علي البنوك والرقابة علي النقد والاشراف علي الائتمان ولديه حسابات الحكومة وقد ظل هذا الوضع سائدا إلي أن قامت الثورة بتغييره في أواخر الخمسينيات. وقد ظهرت مساوئ السيطرة الأجنبية علي القطاع المصرفي المصري باعتباره أحد الروافد السلبية والخطيرة الذي تركها الاستعمار الانجليزي عند خروجه ظهرت هذه المساوئ في نواحٍ عديدة من بينها: (1) امتناع البنوك عن تمويل محصول القطن وهو المحصول الرئيسي الذي كان يغذي الدخل القومي ويعيش عليه ملايين الفلاحين وأصحاب الأراضي الزراعية في مصر وهو ما أدي إلي وجود هزة اقتصادية في غير صالح الاقتصاد المصري الذي كان الاقتصاديون المصريون يحاولون اصلاحه منذ عهد طلعت حب الذي استطاع اقامة أول بنك مصري (بنك مصر) وأول شركات إنتاجية وطنية وكان يعاون في ذلك عدد من الاقتصاديين الوطنيين الذين شعروا بخطورة الادارة الأجنبية للقطاعات الاقتصادية الرئيسية وضرورة إبعاد هذه السيطرة الأجنبية عنها. (2) عدم تنفيذ خطة التنمية العشرية التي وضعتها الثورة بعد قيامها بسنوات قليلة والتي كانت تهدف إلي مضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات والقضاء علي الفقر والجهل والمرض وغيرها من الآفات الاجتماعية التي أصابت الشعب المصري في عهد الاحتلال الانجليزي وهو الذي كان يمتص الثروات والمعادن الثمينة في مصر ويصدرها إلي انجلترا بلا مقابل مادي، وهي خطة اشترك في وضعها كل من الاستعمار الانجليزي والفرنسي والبلجيكي لافقار الشعوب الافريقية والحفاظ علي التخلف فيها. (3) عدم قيام البنوك في مصر بالمساعدة في تمويل السد العالي الذي ظهر فيما بعد أنه يمثل الحياة للشعب المصري، وكلنا نعرف قضية السد العالي الذي رفض البنك الدولي تمويله كما امتنعت البنوك المصرية حينئذ عن المشاركة في التمويل وترتب علي ذلك اضطرار الثورة حينئذ إلي اللجوء للاتحاد السوفييتي الذي قام بالتمويل المطلوب في ضوء التقارب المصري السوفيتي الذي أدي إلي تغيير النظام الاقتصادي المصري من الرأسمالية إلي الاشتراكية التي طبقت في مصر أوائل عام 1961 عندما صدرت القوانين والقرارات الاشتراكية بتأميم البنوك وشركات التأمين اعتبارا من يوليو في العام المذكور. لقد كانت كل هذه الحقائق أمام المفكرين الاقتصاديين في مصر وعلي رأسهم الدكتور الجريتلي الذي نصح حكومة الثورة بضرورة التغيير وتدعيم الإدارة المصرية للبنوك بمصريين وطنيين وبالتالي قامت الحكومة بالحد من سيطرة الأجانب علي القطاع المصرفي عام 1957 وطرد أغلبهم بينما قام المصريون بتسلم الإدارة البنكية في ذلك العام وقد اكتشفوا للأسف مدي اخفاء الأعمال المصرفية الفنية التي كان الأجانب من (مديرين وموظفين عاديين) يقومون بها بعيدا عن أعين المصريين، وهو ما أدي إلي توقف الكثير من العمليات المصرفية في البنوك بل كاد بعضها يغلق أبوابه لولا تعاون بعض الجنسيات الأجنبية مع المصريين كاليونانيين في تيسير تطور الأمور نحو الأوضاع البنكية الصحيحة. وقد انتهت سيطرة الأجانب علي القطاع المصرفي المصري منذ ذلك الوقت وحتي منتصف التسعينيات عندما صدرت تعليمات حكومية غريبة بالغاء شرط تحديد ملكية الأجانب للبنوك في حدود 49% فقط وهو الشرط الذي ظل مطبقا منذ انتهاء عهد سيطرة الأجانب علي البنوك المصرية في أواخر الخمسينيات وأصبح لهم الحق في تملك البنوك بالكامل، وقد أعدت مذكرة تفصيلية حينئذ طولب فيها بعدم إلغاء هذا الشرط وعرضت فيها المساوئ التي أدت السيطرة الأجنبية قبل التمصير في الخمسينيات، كما عرض فيها أن ملكية لبنوك أو النسبة الكبيرة منها في أغلب دول العالم مقصورة علي المواطنين ومنها فرنسا التي لا تسمح بملكية البنوك للأجانب إلا في حدود 20% فقط ولكن لم يلتفت أحد إلي ذلك وتم إلغاء هذا الشرط في مصر دون أن تعرف الأسباب. وبالرغم أن هناك أصواتا اقتصادية حالية تنادي بضرورة تحديد ملكية الأجانب للبنوك والعودة علي الأقل لما كان سائدا قبل تعديل نسبة الأجانب في الملكية وقدرها 49% كحد أقصي، فإن القانون 88 لسنة 2003 الصادر بشأن البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد ترك الباب مفتوحاً أمام تملك الأجانب للبنوك ولم يضع أية شروط لذلك حيث نصت المادة 49 من الفصل الثالث علي أنه (للمصريين ولغيرهم تملك رؤوس أموال البنوك دون التقيد بحد أقصي ينص عليه قانون آخر) وبذلك أصبح للأجانب حق تملك البنوك المصرية بالكامل ودون حد أقصي وهو ما نشهده حاليا في عمليات بيع البنوك ودمجها. وقد عادت أصوات عدد من رجال البنوك تنادي باعادة اثارة هذه القضية الخطيرة بمناسبة الاعلان عن بيع بنك الاسكندرية وهو بنك قطاع عام كبير وله نشاط مصرفي ضخم ويسهم في أكثر من 20 شركة مصرية إنتاجية كبيرا، بينما لا يحدد الاعلان الصادر بالبيع طبيعة المستثمر الرئيسي الذي سيباع له البنك وما إذا كان هذا المستثمر مصريا أو أجنبيا غير أن أغلب المصرفيين المصريين يطالبون بأن يتم البيع إلي مستثمر رئيسي مصري وليس أجنبياً حتي لا يعود الاجانب إلي السيطرة علي القطاع المصرفي مثلما كان الحال عليه في الخمسينيات. إنه نداء ورجاء إلي هؤلاء الذين يعدون القوانين المصرفية والذين يخططون لها بأن يطلبوا من إدرات البحوث التابعة لهم داسة مدي السماح بملكية الأجانب للبنوك في الدول الأجنبية المشابهة لاقتصادنا والتي تجتاز مراحل تنموية في مستوي بلادنا، وعرض النتائج علي القيادتين السياسية والاقتصادية لعلها تعيد النظر قبل فوات الأوان. إن جيلنا الحاضر ورث استثمار الدولة لصالح الأجانب، ومن المؤلم أن ننقل هذا الميراث الاسود إلي الجيل القادم.. وأقول إن من يملك البنوك يملك التحكم في اقتصاديات الدولة وعلينا أن نستفيد بما حدث في دول جنوب شرق اَسيا التي انهارت اقتصاديا في منتصف عام 1997 نتيجة عدم تنظيم التحويلات الرأسمالية من الخارج ويراجع في ذلك محاضرة الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق في تحديده لأسباب أزمة بلاده وكيفية الخروج منها عن طريق تنظيم التحركات الرأسمالية بين ماليزيا والخارج.