جاك أبراموف.. تيقظ للاسم واحفره في ذاكرتك.. يهودي أمريكي أرثوذكسي متعصب.. قصير بدين له شكل جزرة تقف علي عنقها.. جامع تبرعات سياسية للحزب الجمهوري الحاكم.. يتمتع بصلات وثيقة مع رموز الحزب في الكونجرس بمجلسيه، وفي البيت الابيض باجنحته حتي اعتاب المكتب البيضاوي.. وربطة عنق ساكنة! كوشاتاس.. قبيلة هندية تملك مزارع شاسعة تمتد من نيو أورلينز في لويزيانا حتي هوستن في تكساس.. هي ومزرعة بوش جيران.. يملكون كذلك كازينو كبيرا للقمار يدر عليهم كل غطسة شمس فيضا من بنكنوت الدولار! لكن المسئولين في إدارة الولاية يتلمظون للكازينو ويترصدون ابتلاعه! ... فزع ويليام وورفيل زعيم القبيلة بحثا عن منقذ صاحب نفوذ وأنياب.. أغاثه جاك أبراموف.. هبط عليه بطائرة نفاثة صغيرة، وبصحبته مايكل سكانلون السكرتير الصحفي للنائب توم ديلاي زعيم اغلبية الحزب الجمهوري الحاكم في مجلس النواب، ومدير شركة العلاقات العامة التابعة للزعيم.. استعمل الاثنان وسائل احتيالية خلبت لب وورفيل وسائر رموز القبيلة.. هاجم ابراموف علنا خصوم القبيلة من رجال الادارة المحلية.. واستعان هو واسكانلون بالمحافظين المسيحيين انصار الحزب الجمهوري في الولاية لمصادرة نهم الادارة للاستيلاء علي الكازينو، او حتي التفكير في انشاء كازينوهات اخري منافسة له!.. أغرقوا تليفزيون الولاية بحملة إعلانية تدعم كازينو القبيلة.. منجم الذهب.. وتتغني بعوائده الاقتصادية علي المنطقة! وورفيل زعيم القبيلة يتذكر ويحقن محاضر التحقيق: "بمنتهي الثقة قال لنا ابراموف: لا تخشوا احدا او شيئا، نحن معكم نساندكم.. يمكنكم ان تساعدوا من تختارونه من مرشحي الحزب الجمهوري في انتخابات الكونجرس المقبلة.. وكذلك المرشحون لمنصب المدعي العام.. في مقدوركم ان تسيطروا بنفوذكم علي ولاية لويزيانا بأسرها"! ... تم غسيل عقول شيوخ القبيلة.. بقي غسيل أموالها! طلب ابراموف مبلغا متواضعا لاتمام الصفقة: 32 مليون دولار للانفاق علي عمليات العلاقات العامة لمساندة مرشحي القبيلة الوهميين! نال منها سكانلون 9.3 مليون.. واقتنص ابراموف الباقي.. ثم اختفي الاثنان في الشارع رقم 17 بواشنطن دون أثر! تفجرت القضية مثل سيارة مفخخة.. انشغل 48 محققا من 13 مكتبا للتحقيقات الفيدرالية في انحاء الولاياتالمتحدة، يحققون القضية.. والتحقيقات تلد كل نهار قضية اخري تطول مسئولا رفيع المستوي بمن فيهم الرئيس بوش! كريس سويكر رئيس القسم الجنائي بمكتب (FBI) يؤكد لمجلة تايم التي كشفت استار القضية في عددها الاخير..: "سوف نتتبع كل خيط من خيوط هذه القضية الخطيرة، حتي نكشف فساد النظام"! ... وفي آخر فرع من تفريعات القضية، الاسبوع الماضي، اعترف جاك ابراموف اكثر ممثلي جماعات الضغط في واشنطن ثراء بانه مذنب في حفنة من القضايا: غش وتدليس.. وتهرب من الضرائب.. تآمر لرشوة موظفين عموميين! كما اعترف الرئيس بوش، في افادة مكتوبة منه، انه سلم جمعية القلب الامريكي 6000 دولار وصلته من ابراموف! ... لكن ما خفي من جبل الجليد أعظم!! أتمني أن يسجنوه! لأول مرة.. كيف تعرف المتهم جاك ابراموف علي توم ديلاي زعيم اغلبية الحزب الجمهوري في مجلس النواب؟ تعددت الرؤي والروايات.. قالوا: كان واسطة التعارف صديقا مشتركا هو الراباي دانيل لابين حاخام اليهود في منطقة سياتل عاصمة ولاية واشنطن في شمال الغرب الامريكي.. وهو من انصار المحافظين المتحمسين لقضاياهم.. وقالوا: بل التقي الاثنان في حفل لجمع التبرعات للحزب الجمهوري في انتخابات عام 1994 التي نجح فيها الحزب في السيطرة علي الاغلبية في الكونجرس بمجلسيه.. وقد وصف ديلاي في التحقيقات جاك ابراموف بانه: "واحد من اقرب اصدقائي واكثرهم معزة"! ولا دهشة.. فقد كان ابراموف يمطره برحلات المتعة (junkets) إلي مصايف العالم ومشاتيه علي مدار العام! الاتهامات الموجهة الي ابراموف يدور مناطها حول اتجار بالنفوذ والحصول علي تصرفات رسمية بغير استحقاق، مقابل الهدايا وسفريات المتعة والمساهمات المالية في الحملات الانتخابية! وتحاصر التحقيقات التصرفات السياسية لتوم ديلاي، بل انها سوف تمتد بالفحص والتمحيص الي تصرفات السلطة التنفيذية.. اي الادارة الامريكية الجمهورية برمتها! ويزيد من حرج موقف بوش وادارته ان الاتهام قد وجه بالفعل الي ديفيد سافافيان - وهو يهودي - المسئول السابق بالادارة عن وكالة المشتريات للحكومة الاتحادية، لثبوت كذبه في خمس وقائع حول تعاملاته المريبة مع ابراموف! ويدير ايرل ديفاني المفتش العام لوزارة الداخلية تحقيقا واسعا في تعاملات ابراموف مع وكالة الوزارة المشرفة علي شئون الامريكيين الهنود، وهي المنطقة المناط التي بني عليها ابراموف عمله وامله بعيدا عن الشرعية والقانون.. خاصة انه استطاع تنمية روابط مريبة مع ستيفن جرايلز نائب وزير الداخلية المتهم بالتدخل في شئون الوكالة لصالح قبيلة كوشاتاس.. مفتاح القضية برمتها! والثابت ان ابراموف كان يباهي الجميع بان جرايلز هو: "رجله في وزارة الداخلية"! والاكثر ثبوتا في التحقيقات الجارية ان ابراموف كان يرتبط كذلك بصلات مريبة مع السيناتور بيرنز رئيس اللجنة الفرعية المشرفة علي ميزانية وزارة الداخلية، والذي يحتشد الان لترشيح نفسه في التجديد النصفي لمجلس الشيوخ.. وهو الان محل مساءلة في التحقيقات.. سألوه في التليفزيون عن ابراموف، اجاب بنبرة عصبية محترقة: "اتمني ان يسجنوه ولا نري وجهه مرة اخري.. بل اني اتمني لو انه لم يولد مطلقا ليري الدنيا"!! سؤال يتعطش لجواب؟! أصداء قضية ابراموف تثير قضية اخري اكثر اهمية في فقه القانون الدستوري الامريكي.. انها تلفت نظر المحققين بشدة الي البحث عن اجابة لسؤال: هل تشتمل مساهمات الحملات الانتخابية للمرشحين علي شبهة رشوة مقنعة.. خاصة اذا كانت مدفوعة بوضوح مقابل خدمة رسمية؟! إنه سؤال حقيقي يتعطش الي جواب شاف.. نظرا لانه لا يقتصر علي نظام انتخاب الكونجرس وحده، وانما يمتد الي اكبر رأس في الامة الامريكية: الرئيس الامريكي المنتخب.. بأموال الناخبين! ونظام تمويل الحملات الانتخابية سرطان في رؤوس فقهاء القانون الدستوري لا يجدون له شفاء ولا عنه بديلا! واقصي اجتهاد لحل هذه المفارقة الفاضحة مطلب نادي به نيوت جنجريتش رئيس مجلس النواب في أواخر تسعينيات القرن الماضي.. طالب بان يصدر الكونجرس تشريعا خاصا يمنع جمع التبرعات لحملات المرشحين داخل مدينة واشنطن (DC) العاصمة.. مع الكشف الملزم عن كل اتصالات النواب والشيوخ بجماعات الضغط التي تدور في ردهات الكونجرس او خارجه! ... لكن احدا لم يجرؤ علي استصدار مثل هذا التشريع.. رغم انه حل منقوص يحاصر شرعية نظام الانتخاب داخل العاصمة وحدها دون سائر البقاع الامريكية.. وفي ذلك اجتزاء تحكمي لنطاق الشرعية لا يسوغه مسوغ! ... إنما: ما هو علي وجه اليقين نصيب الرئيس جورج بوش من سخام هذه الفضيحة المجلجلة؟! الحميس القادم المتهم أبراموف.. ضيفا علي البيت الأبيض!