فإنني لا أكون مبالغاً عندما أتحدث عن وجود "مؤامرة" أو مخطط ما للتعتيم علي فيلم"Bagman " أو "دائرة الفساد"، كما أطلقوا عليه في عنوانه التجاري، وأؤكد أن"اللوبي" الصهيوني، نجح في الحيلولة دون عرض الفيلم علي نطاق واسع، ومن ثم إجهاض وصول رسالته إلي الجمهور المستهدف، وأن النقاد تجاهلوا في غمرة لهاثهم المحموم وراء "الصغير" و"دينا" التنبيه إلي فيلم علي درجة من الخطورة والأهمية، لأنه يؤكد وجود "لوبي يهودي" يقف وراء صنع القرار في السياسة الأمريكية، وليس وهماً أو نتاج "نظرية المؤامرة" التي تسيطر علينا كعرب سذج! الغريب أن الفيلم، الذي قام ببطولته كيفن سبيسي وأخرجه جورج هيكنلوبر، عُرض في مصر ، قبل أسبوعين من عرضه العالمي الأول في الولاياتالمتحدةالأمريكية، والمحدد له التاسع والعشرين من هذا الشهر، وكما أشار في عناوينه فقد اعتمد علي قصة حقيقية للمليونير اليهودي الأمريكي "جاك ابراموف"، الذي برز اسمه خلال السنوات الخمس الأخيرة كواحد من أكبر أعضاء جماعات الضغط الاقتصادية والسياسية في الولاياتالمتحدة، كما ارتبط اسمه بتمويل الحملات الانتخابية لأعضاء الكونجرس الأمريكي، حتي قيل إنه قدم الرشاوي لما يقرب من 65% من هؤلاء الأعضاء مما جعله يتمتع بأغلبية داخل الكونجرس تفوق أغلبية الرئيس جورج بوش نفسه. أما أهمية "ابراموف"، التي كانت تقتضي منا، كنقاد واعلاميين ومفكرين ومثقفين وساسة- مصريين وعربا-، التفاتة للفيلم أن "ابراموف" هو الرجل الذي كشفت التحليلات والتقارير الاستخبارية أنه كان يدير في الخفاء واحدة من أكبر شبكات الفساد السياسي داخل وخارج أمريكا، ويرتبط بهذه الشبكة جيش كبير يضم عدداً هائلاً من الشخصيات الأمريكية، قيل إن من بينهم الرئيس "بوش" نفسه، وهو الناشط الأبرز والأكثر وزناً في مجال اللوبي السياسي الأمريكي في تاريخ أمريكا المعاصر، والذي تشير الوثائق إلي كونه ضالعاً في الفضائح السياسية والاقتصادية والعسكرية المتعلقة بالإدارة الأمريكية طوال فترتي ولاية جورج بوش، وهو أيضاً الرجل الذي قام عام 2003 بالانفاق علي حملة دعاية إعادة انتخاب الرئيس بوش، وهو أخيراً الذي قال عنه الناشط الإسرائيلي "أوري افنري" إن أهم ما يميزه كونه "صهيونياً متشدداً"، وكما نُشر في أمريكا، بعد سقوطه المدوي، أن جزءاً من الأموال التي قام بالاستيلاء عليها تم تحويلها إلي مجموعات من المستوطنين المتطرفين في اسرائيل، ممن أرسل إليهم معدات قتالية وعسكرية أخري ليتمكنوا من الحاق الضرر بالفلسطينيين، ومن بين ما اشتراه أزياء للتخفي، ومناظير تليسكوبية للقناصة، ومعدات للرؤية في الليل، وهو ما أشار إليه الفيلم بالفعل في أحد مشاهده عندما أكد أنه "ساعد فتي علي تأسيس مدرسة قناصة بعدما سئم سقوط صواريخ "حماس" عليه"! المثير أنه علي الرغم من أن الفيلم بدأ بلحظة القبض علي "ابراموف"، ومن ثم عاد عبر "الفلاش باك" إلي الماضي، ليحكي سيرته الذاتية، إلا أن شيئاً من هذا لم يقلل من إثارة الفيلم وحيويته وتدفق أحداثه، والفضل في هذا يرجع إلي كاتب السيناريو نورمان سنيدر، الذي أثري الفيلم بالكثير من التفاصيل، التي أثقلت كاهله في أحايين كثيرة، لكنها جعلت منه وثيقة سينمائية كشفت، وربما للمرة الأولي، كيف تنشأ وتعمل جماعات الضغط في أمريكا، كما أكدت الوثيقة السينمائية بما لا يدع مجالاً للشك أن "اللوبي اليهودي" يملك بالفعل خيوط اللعبة، وأن الامبراطورية الاقتصادية التي تتحكم في الساسة، سواء في البيت الأبيض أو في مجلس النواب الأمريكي، هي نتاج أموال قذرة نجح "اللوبي" في جمعها بأساليب ملتوية، كالنصب والكذب والزيف والخداع والتدليس والتزوير، كما فعل "أبراموف"، الذي حصل علي ملايين الدولارات من القبائل الهندية سكان أمريكا الأصليين كما وصفهم الفيلم بعد ايهام زعمائها بأنه سيستخدم نفوذه لدي أعضاء الكونجرس، الذين يعود إليه الفضل في فوزهم بمقاعدهم، ليمنحوهم الرخص القانونية اللازمة لادارة أندية القمار في مناطق تجمعاتهم التي تتمتع، طبقاً للقانون الأمريكي، بالإعفاء من الضرائب. منذ البداية نؤكد "تترات" الفيلم أنه مأخوذ عن قصة حقيقية، لكن الشركة المنتجة للفيلم توحي بما أرادت طرحه في الفيلم عندما استبدلت، في أفيش الفيلم، العبارة الشهيرة "نثق في الرب" IN GOD WE TRUST المكتوبة علي ورقة الدولار الأمريكي بعبارة أخري تقول" نثق في الجشع" IN GREED WE TRUST في اسقاط واضح علي تغلغل "الجشع" و"الطمع" في أرجاء المجتمع الأمريكي، والأمثلة واضحة في الشخصيات الأمريكية الكثيرة التي تورطت في ابرام صفقات مشبوهة مع "ابراموف"، ابتداء من الرئيس الأمريكي نفسه، مروراً بالنائب الجمهوري توم ديلي زعيم الأغلبية في مجلس النواب ، الذي يعود الفضل لليهودي "ابراموف" في تكوين أمبراطوريته السياسية التي قيل إنها كانت تشكل قاعدة القوة الرئيسية بالنسبة ل ديك تشيني وقت أن كان يشغل منصب نائب الرئيس الأمريكي. وفي سياق الجشع الأمريكي أيضاً أشار الفيلم صراحة إلي بوب ناي رئيس لجنة الإدارة بمجلس النواب والنائب الجمهوري عن ولاية أوهايو، الذي اعترف "ابراموف" بأنه حصل علي جهوده مقابل مجاملات وخدمات رسمية، فضح الفيلم جانباً منها عندما استخدم منصة الكونجرس ليطلق قذائفه ضد مناهضي "ابراموف"، وبالاسم أيضاً، ومن دون مداراة، كشف الفيلم حقيقة الدور الذي لعبه "آدم كيدان" في حياة "ابراموف"، وكيف تحول في لحظة إلي القشة التي قصمت ظهرالبعير"؛فالفيلم امتلك من الجرأة والشجاعة ما دفعه لفضح الأشخاص والوقائع معاً، ولم يتردد في القاء الضوء علي الطرق المشبوهة التي تضخمت بها امبراطورية "أبراموف"، الذي تقول سيرته الذاتية أنه كان يدير مكتبا "قانونيا" يعمل في مجال "تمثيل الشركات والمصالح" لدي ساسة واشنطن إلا أنه اهتدي إلي نظرية تقول إن "أفضل سياسي هو ذلك الذي يضعه هو وحلفاؤه في منصبه ثم يأمره بان يفعل ما يريد باعتباره "سلعة" من انتاجه"(!) نجح الفيلم في كشف هوية وأوراق وأيضاً الدور المشبوه الذي تلعبه جماعات الضغط في المجتمع الأمريكي، وكيف أصبح النفوذ لدي الواحدة منهن أهم بكثير من الهواء النقي، كما تضخم الشعور لدي الغالبية منهن بأن "عجلة واشنطن تتوقف بدون وجود جماعات الضغط"، بل أن الكثيرين منهم صور لهم خيالهم المريض أن "الديمقراطية الأمريكية سارية المفعول نتيجة لوجود هذه الجماعات"، فالصفقة التي أبرمها "ابراموف" مع القبائل الهندية تمت تحت شعار تعويضهم عن ثلاثين سنة من الابادة، وانقاذ هذه الأقلية المضطهدة، وكل عبارات الزيف التي تستر بها "ابراموف" ليغرر بالقبائل والرأي العام، ويخفي نواياه الخبيثة في الاستيلاء، هو وشريكه مايكل سكانلون علي مايقرب من 40 مليون دولار ، بالإضافة إلي تدخلهما في تغيير مسار قانون انتخابات القبائل سعياً وراء الحصول علي تعاقدات معها، وحتي عقود التنقيب عن النفط كان له نصيب فيها، بفضل العلاقة الوثيقة التي تربطه والرئيس الأمريكي "بوش". "جاك ابراموف" هو "الفاشي اليميني" الذي قدمه الفيلم ، وكأنه "الأب الروحي" أو "دون كورليوني" زعيم جماعات المافيا، كما وصف "ابراموف" نفسه في أحد مشاهد الفيلم، بسبب قدرته علي الخداع والكذب والتدليس وبيع الوهم للجميع، لكنه في جانب آخر من الصورة الانسان رقيق المشاعر الذي يعزف مقطوعات "شوبان"، والأب الحنون الذي يرعي عائلته بحب وخوف، واليهودي المتشدد الذي يتزود من تعاليم التوراة، ويؤمن بسفر الخروج والخرافات اليهودية، كالعجل الذهبي، ويواظب علي الصلاة، ويرتدي القلنسوة، ويحَرم العمل يوم السيت، لكنه مغرم في نفس الوقت بالسينما ودائم الاقتباس من جمل أفلامها، حتي أنه يفضل، بعد سقوط أمبراطوريته أن يكتب السيناريوهات كونه لا يري فارقاً بين واشنطن وهوليوود إلا في الوجوه القبيحة لأهل واشنطن؛فالمتناقضات التي تميز"ابراموف" تمثل ملمحاً بارزاً للشخصية التي جسدها الممثل كيفن سبيسي ببراعة فائقة، ومشاعر صادقة، علي الرغم من الانفعالات الهادئة التي يتسم بها أداؤه، واعتماده علي مدرسة لها خصوصيتها في "الصخب الرقيق"، وعلي الرغم من المصير الذي انتهي إليه "أبراموف"، وأوحي في لحظة بأنها النهاية السعيدة أو قدرة أمريكا علي تطهير نفسها من الأشرار والفاسدين، إلا أن الفيلم فضح زيف الديمقراطية الأمريكية، وما اصطلح علي تسميته "المؤسسة"؛فالفساد ينخر في "الإدارة"، والكل متورط بدرجة أو بأخري، من "بوش" إلي أصغر "سيناتور"، بدليل أن الحكم الذي صدر بإدانة "ابراموف" بالسجن لمدة ست سنوات لم ينفذ منه سوي ثلاث سنوات ونصف السنة، لمجرد أنه التزم الصمت طوال جلسات محاكمته، ولم يزلزل الارض تحت أقدام "بوش" والنواب الجمهوريين والديمقراطيين المرتشين، وهي الرؤية التي راوغ المخرج في تقديمها، عندما أوحي في مشهد "خيالي" بأن "ابراموف" طفح به الكيل، وتمرد علي اتفاقه مع "الكبار"، وأصر علي فضح دورهم وتواطؤهم في القضية،