منذ عشر سنوات انسحب البريطانيون من صناعة بنوك الاستثمار وقاموا ببيع ما يمتلكونه من شركات الخدمات المالية واحدة بعد الأخري إلي الشركات الأمريكية العملاقة وساد منذ ذلك الحين اعتقاد بأن لندن ستلعب دائما دور "السنيد" لأسواق نيويورك عاصمة الاستثمار العالمي وستكون مجرد سلم يستخدمه من لا يستطيع الوصول إلي وول ستريت.. ولكن ثمة أرقام أذيعت في نهاية ديسمبر الماضي قلبت هذه الفكرة رأسا علي عقب.. وطبقا لهذه الأرقام تقول مجلة "نيوزويك" الأمريكية إن لندن فاقت نيويورك كسوق لإصدارات الأسهم الأولية علي المستوي العالمي، وإن أوروبا تقودها لندن تفوقت علي الولاياتالمتحدة في عدد الشركات التي سجلت في بورصاتها خلال عام 2005. وهذه الأرقام توضح الكثير في شأن ما طرأ علي صناعة التمويل العالمية من تغيرات، فمن المعروف أن النمو يتركز نشاطه حاليا في الأسواق الناشئة وأن كثيرا من شركات الأسواق الناشئة وهذا هو الجديد حقا صارت تتجه إلي لندن من أجل جمع الأموال والحصل علي ما تريده من تمويل. وتفسير ذلك يرجع إلي قانون ساربانيز أوكسلي الذي أصدرته الحكومة الأمريكية عام 2002 لتنظيم الأوضاع المحاسبية للشركات الأمريكية في أعقاب فضيحة انهيار شركة إنرون وغيرها من الشركات الأمريكية العملاقة. فالمعايير المحاسبية القياسية التي يشترطها هذا القانون لأي شركة تتعامل مع أسواق المال الأمريكية بالغة التشدد والصعوبة لدرجة أن الشركات الأجنبية راحت تهرب من التسجيل في البورصات الأمريكية.. وبالمقابل فإن عمدة لندن والمسئولين في بورصة لندن راحوا يسوقون العاصمة البريطانية بقوة ومهارة باعتبارها العاصمة الحقيقية للتمويل في العالم؛ فهي التي تقوم بمعظم التعامل العالمي علي الأسهم ولديها عدد هائل من صناديق الاستثمار، كما أن أسواقها تعد أكبر مقرض للشركات الأجنبية.. وبالأرقام يقول تراس بيرس المسئول عن تنمية الشركات العالمية في بورصة لندن إن حجم رأس المال المؤسسي المستثمر في الأسهم الأجنبية في أسواق لندن يربو علي 700 مليار دولار وإن هذا يضع لندن في المقدمة ويجتذب الشركات من الأسواق الناشئة الكبري مثل الصين والهند وروسيا.. وربما كانت نيويورك وطوكيو تستثمران كمية أكبر من الأموال في أسهم الشركات الأجنبية ولكن لندن تتفوق عليهما باعتبارها المصدر الوحيد للخدمات المالية.. فالميزان التجاري الأمريكي للخدمات المالية يسجل عجزا حجمه 82.6 مليار دولار والميزان الياباني هو الاَخر يسجل عجزا حجمه 610 ملايين دولار، أما الميزان البريطاني فيسجل فائضا حجمه 56.32 مليار دولار لصالح بريطانيا حسب أرقام صندوق النقد الدولي عن عام 2004. وتقول مجلة "نيوزويك" إنها مفاجأة حقيقية أن تكون اليابانوالولاياتالمتحدة مستوردتين للخدمات المالية.. ولكن هذا هو الواقع وتفسيره ببساطة يرجع إلي عمليات التأمين وإعادة التأمين. وعلي سبيل المثال فإن الولاياتالمتحدة لديها فائض حجمه 17 مليار دولار في ميزان مدفوعات الخدمات المصرفية ولكنها لديها عجز في ميزان مدفوعات الخدمات التأمينية يناهز ال 24 مليار دولار، والطريف أن أوروبا هي التي تقدم للولايات المتحدة حاجتها من الخدمات التأمينية.. ومن الأرقام ذات الدلالة أن 85% من مدفوعات أمريكا في عمليات إعادة التأمين عام 2004 قد ذهبت إلي شركات أجنبية تأتي في مقدمتها الشركات الأوروبية العملاقة مثل لويدز اللندنية وغيرها. وفيما يخص بريطانيا فإن ثلث ما تحققه من فائض في تصدير الخدمات المالية فقط يرجع إلي التأمين، أما الثلثان فيتحققان عن طريق تصدير الخدمات المصرفية.. فالسوق المصرفي البريطاني أصغر من السوقين الأمريكي والياباني ولذلك تهاجر البنوك البريطانية إلي الخارج ليمكنها تحقيق معدلات مناسبة من النمو والأرباح.. وعموما فإن نصيب أوروبا من السوق المالي العالمي تزايد في السنوات الأخيرة حيث يقدر الخبراء أن نصيبها من السوق العالمي للبنوك التجارية يبلغ 63% مقابل 17% للولايات المتحدة. وعلي أية حال فإن معني ما تقدم هو أن لندن قد نجحت في منافسة نيويورك وطوكيو كسوق عالمي للمال وليس معناه أن نيويورك أو طوكيو في أزمة بل ربما كان العكس هو الصحيح فأسواق المال الأمريكية لاتزال أكثر الأسواق سيولة في العالم كما لا يجب أن ننسي أن ازدهار لندن كسوق للمال تساهم فيه الشركات والبنوك الأمريكية مثل مورجان ستانلي وسيتي جروب بنصيب كبير.