وقف الملك حمد بن عيسي آل خليفة ملك البحرين يتلقي العزاء في وفاة نجله الشيخ فيصل الذي توفي عن خمسة عشر عاما في حادث مروري، وصافح الملك الآلاف من مواطنيه الذين أتوا لمواساته وتعزيته، وجلس الملك مع الوفود التي جاءته من كل مكان، ملوكا ورؤساء وأمراء وقادة وهو في غاية الصلابة والقوة في تسليم عميق بقضاء الله وقدره وإيمان مطلق بأن المولي سبحانه وتعالي قد استرد وديعته وأنه لا راد لقضاء الله. وشعرت بتعاطف إنساني هائل مع ملك البحرين في هذه اللحظات الحزينة، فما أقسي أن يقف الأب ليتلقي العزاء في ابنه، وما أسودها من لحظات تلك التي يستوعب فيها أنه لن يراه ثانية، فمهما كانت درجة الإيمان والتسليم بالقضاء والقدر فإن لحظات الفراق والوداع تصبح في كثير من الأحيان فوق طاقة البشر وفوق الاحتمال. ولكنني علي مدي أكثر من عشرين عاما قضيتها في البحرين في هذا البلد الخليجي الرائع ذهبت خلالها إلي مئات ومئات من مناسبات التعزية والمواساة فإنني وجدت شعورا ايمانيا وروحانيا خالصا في التعامل مع الموت علي انه حقيقة إلهية يتم تقبلها بالرضا والسكينة دون انفعالات زائدة ودون مزايدة علي الموت ومبالغة في اظهار الأحزان بالصراخ والعويل. ولا يمكن أن أنسي أبداً تلك اللحظات المؤثرة التي ذهبت فيها أشارك في وداع أمير البحرين الراحل الشيخ عيسي بن سلمان آل خليفة إلي مثواه الأخير، في مقبرة عادية بمنطقة الرفاع لا تعرف من هو المدفون فيها لأنه لا أسماء ولا شواهد علي القبور، وقد حمل جثمان الأمير الراحل علي خشبة عادية حيث ووري الثري بعد الصلاة عليه في مسجد صغير بالمقبرة ووقف الجميع علي قبره يقرأون الفاتحة علي روحه في جنازة لم تستغرق طويلا دون مبالغات أو مراسم خاصة ودون انتظار لحضور وفود من هنا أو هناك للمشاركة في تشييع الجنازة إيمانا بأن إكرام الميت دفنه وتنفيذاً لوصية الأمير الراحل في التعجيل بدفنه. ويصبح المشهد رائعا في البحرين عندما تجد أن الناس تحرص علي الذهاب إلي المقابر للمشاركة في دفن أي شخص والصلاة عليه، وتتوجه الجموع بعد ذلك لتقديم العزاء الذي يستمر لمدة ثلاثة أيام في مشهد من التآلف والتآزر يوضح طبيعة هذا المجتمع الذي مازال مصراً علي التمسك بجذوره وعاداته رغم رياح العولمة والانفتاح التي تجتاح العالم العربي والتي غيرت الكثير من مفاهيمه واخلاقياته. ولعل هذا الحرص علي التمسك بالجذور هو سر قوة المجتمع البحريني الذي امتص داخله كل الخبرات الاجنبية الكثيرة التي قدمت إلي البحرين للعمل والاقامة، فتفاعل مع الأمريكي والانجليزي والهندي والباكستاني وانصهر مع المصري واليمني والسوري والأردني واللبناني وتعلم من الجميع واندمج معهم ولكنه ظل في النهاية علي روحه العربية الأصيلة مستفيدا من كل هذه الثقافات والحضارات معتزاً بحضاراته وعروبته ودينه. ولأنه مجتمع قوي في داخله لا يعاني من الكثير من عقد النقص التي تنتاب مجتمعات أخري فإنه مجتمع قائم علي البساطة في التعامل، والبساطة في الحياة وقد اكتسب قادته محبتهم بين الناس لأنهم يعيشون حياتهم العادية بين الناس، وفي الكثير من الدوائر الحكومية فإن عددا من شيوخ الأسرة الحاكمة (الأمراء) يعملون في وظائف صغيرة تحت إمرة أفراد عاديين من عامة الشعب ويتلقون منهم الأوامر وينتظرون دورهم في الترقيات والدرجات الوظيفية! والبحرين تكاد تكون الدولة الخليجية الوحيدة التي من الممكن ان يكون الأجنبي فيها رئيسا علي المواطن دون عقد أو حساسيات لأن المعيار هنا هو الكفاءة والخبرة. وفي السنوات الأخيرة اتخذت البحرين خطوة مهمة نحو تجنيس عدة آلاف من العرب والأجانب المقيمين علي أرضها سنوات طويلة بمعيار 15 سنة اقامة متصلة للعربي و25 سنة للأجنبي وهي خطوة أثارت الكثير من الجدل السياسي حول دوافعها وما يقال عن أهدافها للاخلال بالتركيبة السياسة إلا أنها في النهاية خطوة بالغة الدلالات الانسانية نظرا لأنها تضع حداً لمعاناة آلاف الأسر الوافدة التي عاشت معظم حياتها في البحرين والتي قدمت لهذا البلد الكثير والتي لا يعرف أبناؤها من الجيل الجديد وطنا آخر لهم إلا البحرين والذين أحسوا مع منحهم الجنسية البحرينية بالكثير من الاستقرار وان كان باب التجنيس سوف يجعلهم يشعرون فيما بعد بقضايا أخري مثل إحساسهم بالتمييز في المعاملة أو الوظائف، ومثل عدم قدرتهم علي التكيف "خليجيا" بالشكل الذي اعتاد عليه أبناء الخليج. ولأن البحرين ليست دولة غنية بالمفاهيم الخليجية لقلة مواردها النفطية فإنها تعاني من مشكلات تماثل الكثير من المجتمعات العربية النامية مثل البطالة والإسكان وهي مشكلات وقضايا توجد اضطرابات اجتماعية قد تصبح حادة في بعض الأحيان وتغذيها الانقسامات الطائفية في البحرين ما بين السنة والشيعة. وهذه القضايا مع وجود برلمان منتخب تثير حراكا سياسيا لا ينتهي في البحرين وهو حراك انعكس علي الصحافة التي اصبحت اكثر تحررا وحدة في توجيه الانتقادات في حرية تامة وفي ظهور ظاهرة المسيرات والمظاهرات التي أصبحت أسلوب حياة في المجتمع البحريني بشكل أثار القلق والمخاوف من هروب الاستثمارات الاجنبية نتيجة لهذه المظاهرات الاحتجاجية التي لا تتوقف والتي تتم في معظم الاحيان في المناطق الحيوية من العاصمة المنامة. ولكنه علي أية حال حراك سياسي مقبول في ظل الإصرار علي التمسك بالمشروع الاصلاحي الذي اطلقه الملك حمد لتدعيم الديمقراطية وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني في صياغة ورسم سياسات المملكة وهو الأمر الذي دفع الملك حمد في العديد من المرات إلي التدخل والإفراج عن الكثير من المحتجزين في اعمال شغب وقلاقل. وفي البحرين مشروع تنموي وطني طموح يقوده الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء وعم الملك الحالي وهو الرجل الذي يشار إليه بمهندس النهضة البحرينية فهو الذي قاد مسيرة البحرين نحو التحديث عبر السنوات الماضية وشارك شقيقه الأمير الراحل في وضع سياسات الانفتاح والتحرر الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل والتي كانت سببا في قدرة البحرين علي امتصاص الكثير من الأزمات السياسية والاقتصادية التي عصفت بالمنطقة. والبحرين التي عشتها هي قصة شعب صغير صنع تجربة كبيرة جديرة بالمتابعة والإعجاب وهي قصة التوظيف الجيد للموارد في خدمة التنمية وبناء الإنسان وهي قصة شعب مازال يعيش كأسرة واحدة ويقاوم بقوة محاولات اختراق منظومته الاجتماعية المتماسكة.. وكل العزاء لملكها وشعبها في وفاة نجله الشيخ فيصل رحمه الله. [email protected]