وسط "معمعة" التعديل الدستوري وتداعياته والاشتباكات بين القوي السياسية في المجتمع حول طبيعته وآثاره يبدو ان الجميع تقريبا يتجاهلون الهم الاقتصادي في اجندة كل طرف ويركزون بدلا من ذلك حول نقد التعديل وشروطه ويقيمون التعديل الذي يحول طريقة انتخاب الرئيس من الاستفتاء الي الانتخاب لأول مرة منذ زمن طويل علي حسب ما يعطيه من فرص للمعارضين. الخلاف حول ما تمخض عنه التعديل عند خروجه من مجلس الشعب طبيعي وربما تنطوي مواقف المعارضة علي ملاحظات مشروعة خاصة فيما يتعلق بالقيود الموضوعة بشأن امكانية وصول الراغبين في الترشح الي منصب الرئاسة الي صناديق الانتخابات والعدد المبالغ فيه المطلوب لاقرار ترشح من يرغب من اعضاء المجالس النيابية قبل ان تتاح له فرصة المشاركة في الانتخابات ومع ذلك فان هذه القوي الراغبة في ترشح ممثلين عنها لمنصب الرئاسة عليها ان تنشغل ايضا بتوضيح برامجها امام الناس ولابد ان يكون مفهوما ان الرفض والتظاهر ضد ما يجري لا يصلح وحده مبررا لتعاطف الجماهير كما ان الشعارات الفضفاضة التي تتحدث عن نقد الوضع الراهن دون ان تقدم بديلا عمليا محددا ومفصلا لما يمكن عمله تضعف كثيرا من مصداقية قوي المعارضة في عرضها لقضية التغيير علي الجانب الآخر فان الناس تريد ان تسمع من الحزب الوطني الحاكم مزيدا من الايضاحات عما يعتزم الرئيس والحزب عمله وانجازه خلال السنوات الست القادمة. في شئون السياسة يأتي خطاب الحكومة والمعارضة متشابها رغم اختلاف اللهجة والعبارات فالكل مجمع علي ضرورة تعميق الديمقراطية والمشاركة السياسية حتي وإن كانت البرامج التفصيلية لاحداث هذه الثقلة الديمقراطية غير واضحة في خطاب كل الاطراف وعند الانتقال الي الجانب الاقتصادي الاكثر إلحاحا علي اذهان الناس فان الامور تزداد غموضا وضبابية خاصة عند المعارضة فمن جانبه يري الرئيس ان الانجازات الاقتصادية التي حدثت خلال فترة حكمه مثل تطوير البنية الاساسية ودعم الاحتياطي النقدي وتحديث الاقتصاد وغيرها تعد مؤشرات علي الطريق الذي ينوي انتهاجه في المرحلة القادمة كما يعد بايجاد حلول لمشكلات البطالة وتدني الدخول ودعم الضمان الاجتماعي وفي هذا الاتجاه يشير الخطاب الرئاسي الي ان الحكومة والحزب سيواصلان دعم المبادرات الخاصة في الاقتصاد وتشجيع الاستثمارات الجديدة بانواعها لحل مشكلات الفقر والبطالة وهذه كلها عناصر ومؤشرات تمثل برنامجا اقتصاديا وهو وان كان غير كامل وتعوزه بعض التفاصيل الا انه بالتأكيد اكثر وضوحا بكثير من برامج احزاب وقوي المعارضة التي تمتنع حتي الآن عن مناقشة امور الاقتصاد بجدية في خطابها المعلن وتركز بدلا من ذلك علي إبراز مشكلات البطالة وضعف ميزانيات التعليم والرعاية الصحية والحديث المستمر عن الفساد. وحتي نكون اكثر تحديدا فان الوضع الاقتصادي يعلو في اهميته علي اي شأن آخر رغم ان كل الشئون مهمة ومتاعب الناس مع مواجهة اعباء الحياة غير خافية علي احد بدءا من ضعف الدخول ونقص فرص العمل مرورا بالروتين الذي يعوق انجاز المعاملات ووصولا الي ضبابية التوجه الرسمي فيمايتعلق بالتعليم والرعاية الصحية والخدمات التي يتعين الحصول عليها في يسر سواء بصورة مدعومة "بحق وحقيق" او من خلال دفع تكلفتها في اطار دخول تسمح بتحمل هذه التكلفة. وهنا من المهم ان يعرف الناس في معركة الرئاسة القادمة وفقا للتعديل الاخير كيف يفكر السياسيون في هذه المشكلات علي سبيل التحديد الدقيق وهو ما يحدث في الدول الاخري التي تشهد منافسات حزبية للوصول الي السلطة واذا كان من غير المتصور ان تشهد البرامج عند طرحها افكارا اقتصادية متطرفة علي النسق الاشتراكي القديم او حتي علي الطرف الاخر الذي يبالغ في تحرير الاسواق والسياسات الاقتصادية الي الحد الذي يضر بالفقراء فانه تظل هناك حاجة اساسية لاستعراض افكار وخطط القوي المتنافسة فيما يتعلق بالاجابة عن امور ذات دلالات مهمة للمجتمع مثل الموقف من عجز الميزانية وسبل مواجهة البطالة والموقف من القطاع العام ودعم السلع والخدمات والضرائب علي دخول الافراد والشركات وصولا الي تحديد مواقف الراغبين في خوض الانتخابات الرئاسية من قضايا اقتصادية خارجية ذات تأثير بالغ علي الواقع المحلي مثل الموقف من العولمة وسياساتها وكذلك الاتفاقيات الاقليمية التجارية والاقتصادية وقبل كل ذلك وبعده رؤي الاحزاب والقوي السياسية فيما يتعلق بتمويل مشروعات التنمية في بلد يعاني من قصور مزمن في التمويل المحلي والمدخرات بأنواعها ان تجاهل مثل هذه المحددات الاقتصادية في الخطاب السياسي يجعله خاليا من محتوي حقيقي يساعد الناس علي اتخاذ القرار الذي يناسب طموحاتهم وقدرتهم علي التحمل في آن واحد ويجعل هذا الخطاب اقرب الي الطنطنة والرطانة غير المفهومة وهذا هو آخر ما نحتاج اليه في هذه الايام الصعبة.