في فرنسا كدولة ديمقراطية بدأ التسابق بين السياسيين من الأحزاب لإعلان نيتهم للترشيح لانتخابات رئاسة الجمهورية بعد سنتين ولم تنتظر معرفة قرار ساركوزي وهل يطمح في احتلال كرسي الحكم لفترة ثانية أم لا. ولم تكن شخصيات من المعارضة فقط هي من صرحت بقرارها ولكن أيضا شخصيات من بين أعضاء الحزب الحاكم. فبعد نتيجة الانتخابات الإقليمية في النصف الثاني من مارس والهزيمة الفادحة لحزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" الحاكم، تعالت أصوات الانتقاد من الداخل بالحزب ومن قبل المعارضة والصحافة. ويمكن الجزم بأنه لا تخلو جريدة أو مجلة أسبوعية من مقالات تقدم كشف حساب موضوعي وحاد في الانتقادات للسياسة التي أتعتها الحكومة والرئيس منذ توليه السلطة في منصف 2007. ويمكن إيجاز بعض الانتقادات في عناوين الدوريات مثل : "أزمة الساركوزية" و و"تراجيديا ساركوزي". فهذه الأزمة نتاج السياسات اللا اجتماعية والتي تقسم المجتمع بطرح قضايا الأمن والهجرة والهوية الوطنية الفرنسية. بجانب عدم حماية العاملين من الطرد من العمل وتقليص العمالة في قطاعي التعليم والصحة وتفجير الغضب بين رجال القضاء والزراع ومربي الحيوانات ومنتجي الألبان والخارجين إلي المعاش... وقد بدأت الفرقة في قلب اليمين برغم قيام الرئيس بتغير وزاري محدود ضم بعض المقربين من كل من "جاك شيراك" و"دومينيك دو فيلبان" و"آلان جوبيه". أي ممن قادوا سياسة الدولة قبل وصول ساركوزي إلي السلطة. فبعد وصوله لقصر الإليزيه أعلن أن سياسته ستكون سياسة قطيعة مع تلك التي سادت قبله. بطل الحضر والتغير الثاني الذي له أهمية بالغة تمثل في تراجع ساركوزي عن تعهداته بشأن حماية البيئة عبر اتفاق سابق تم التوقيع عليه مع المنظمات والجمعيات الخضراء عرف باتفاق "جرونيل". وهو اتفاق أعطي حينها للرئيس صورة "بطل الخضر" إذ يفرض علي الصناعات الملوثة للبيئة، وكذا علي مستخدمي الناقلات والسيارات ضرائب خاصة نتيجة تلويث البيئة. وحصيلة تلك الضرائب تستخدم في مشاريع مكافحة التلوث وتحض علي استخدام متزايد للطاقة النظيفة. أي بكلمة المحافظة علي مستقبل الأجيال القادمة التي يعتبر أن التخلي عنها "يتم لصالح الصناعات الكبري وممثلي كبار رجال الأعمال" كما يقول "ايريك فوتورينو" في افتتاحية صحيفة "لوموند" في 25 مارس بعنوان "انغلاق". وشكل تراجع ساركوزي صدمة وطنية نظرا لتراجعه عن التعهد الذي التزم به في خطب سياسية لا تحمل أي تشكيك في أن قراره نهائي واستحالة أن يتراجع. ولعل أحد أسباب التراجع يعود لتصور الرئيس أنه بتوقيعه لاتفاق لحماية البيئة يضمن أصوات الناخبين من الخضر وهو ما لم يتحقق بل أكثر من ذلك أصبح تكتل الأحزاب المدافعة عن البيئة القوة السياسية الثالثة في فرنسا بعد الحزب الاشتراكي وحزب اليمين الحاكم وزاد علي ذلك أن المدافعين عن البيئة تحالفوا في الجولة الثانية من الانتخابات، في 21 مارس، مع اليسار وليس مع حزب الرئيس. النقاب والمعاشات ومن مظاهر "تراجيديا" اليمين الحاكم إصراره علي سن قانون يمنع "البرقع والنقاب" في فرنسا وعدم الاكتفاء بقواعد منظمة لدخول الأماكن العامة لدواعي الأمن واحترام مبادئ العلمانية. وهذه الرغبة المسعورة لسن قانون ترمي لمعاودة جذب الناخبين من أعضاء اليمين المتطرف إلي اليمين الحاكم بعد أن تخلوا عنه وعادوا لحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف. ولقد جاءت الضربة لإمكانية سن مثل هذا القانون من "مجلس الدولة" الذي أعد تقريرا طلبه رئيس الوزراء بشأن المسألة وتسربت خلاصته التي تستبعد إمكانية سن قانون. وحلل الوضع الراهن "بيير مارسي"، الكاتب والصحفي في صحيفة "ليبرسيون" : في 26 مارس في مقال بعنوان : "ما بين النقاب والمعاشات تلوح فرضية الجنون".. فلم يعد من السهل اعتبار اليمين البرلماني يمينا جمهوريا (أي يتمسك بمبادئ: الحرية والمساواة والإخاء) ولا وصف اليمين المتطرف بالمتطرف. أي تلاشت الحدود بين التيارين السياسيين. فما يقوده اليمين الحاكم من سياسات بشأن المعاشات (تمديد سنوات العمل لاستحقاق معاش كامل وزيادة نسبة الاستقطاع من الأجور وانخفاض قيمة المعاش) ومسألة النقاب "تلوح وكأنها تفجير لحرب اجتماعية وأهلية علي السواء." ولقد كانت أول بوادر التشكيك في وحدة اليمين سريعة وتمثلت في "شائعات" عن خلافات حادة بين الرئيس ساركوزي و"فرنسوا فيون"، رئيس الوزراء، إذ كان من المقرر أن يشارك في حوار تليفزيوني غداة نتيجة الانتخابات ولكنه ألغاه في صباح يوم اللقاء بعد تدخل من ساركوزي في التلفزيون. وقيل إن الرئيس هو من طلب من رئيس الوزراء ألا يذهب للتليفزيون "إذ إن هناك شخصا واحدا يتكلم".. أي ساركوزي. وتم نفي الشائعة غير أن الصحف عددت الخلافات بين الرجلين وأن استطلاعات الرأي تضع رئيس الوزراء كمرشح أمثل في الانتخابات إذا تقدم للرئاسة. وتلا تلك الشائعات حقيقة بإعلان "دومينيك دو فيلبان"، رئيس الوزراء السابق في عهد جاك شيراك والعضو في حزب ساركوزي، عن تشكيل حركة سياسية جديدة أي حزب "لإنقاذ فرنسا من سياسة ساركوزي". وإن كان من المنطقي أن يدخل "دو فيلبان" لحلقة الصراع مع خصمه ساركوزي فإن الدهشة جاءت من أحد المقربين من الرئيس. إذ أعلن "آلان جوبيه"، رئيس الوزراء في عهد "شيراك"، عن ضرورة أن يقوم الحزب الحاكم بانتخابات داخلية لاختيار مرشحه للانتخابات المقبلة وأنه لا يستبعد أن يتقدم للترشيح هو نفسه إذا لم يعاود ساركوزي ترشيح نفسه. وتسبب فتح باب التنافس علي الرئاسة عن حالة من القلق في قلب الحزب الحاكم. وتجسدت حالة القلق في تصريح "جان فرنسوا كوبيه"، رئيس الكتلة البرلمانية للحزب إذ صرح "بأنه لا يشك في كفاءة ساركوزي كمرشح طبيعي للحزب لكي يقوده للنصر ويحول دون عودة اليسار إلي السلطة. وأن الوقت الراهن يحمل مخاطر كبيرة نتيجة الانتصار الهائل الذي حققه الحزب الاشتراكي وأن اليسار اليوم قادر علي الفوز في معركة الرئاسة".