مناضلون يساريون عطية الصيرفي «1» «أصل الحكاية إننا مؤدبون أكثر من اللازم ومحترمون أكثر من اللازم، والجماهير مش كده لو عندها مطالب تلاقيها بتشاغب وتقوم بأعمال وأقوال غوغائية وأنا أراهن علي قليل من الشغب والغوغائية في أي تحرك أو في أي كتابة ولهذا تجدني أقرب إلي الجماهير». عطية الصيرفي «خلال جلسة حوار» ثمة خط رفيع فاصل بين الفعل الثوري والنضالي وبين الشغب الغوغائي.. وفوق هذا الخط تماما وقف عطية الصيرفي المناضل العمالي، وعطية ليس مجرد كمساري أتوبيس ولا مناضل نقابي وسياسي لكنه اكتسب من إصراره علي التعلم معرفة بالتاريخ وأخري بالاقتصاد وفنون أخري من المعارف لعلها اختلطت عنده بطريقة مبسطة لكنها آسرة، وتقرأ كتبه لتشعر بالحيرة فهل هذه كتابة عامل؟ والإجابة ليس هذا معتادا في كتابات العمال. ثم تسأل هل هذه كتابة علمية في تاريخ مصر أو تاريخ الطبقة العاملة، والإجابة: ليس تماما، وتبقي المفاضلة أو حتي المفاضلة بين الشغب وبين العمل النضالي المتعقل هي محور علاقته بحزب التجمع وبالتحرك اليساري عموما، ويستمتع عطية بذلك ويروق له دوما أن تدخل معه في حوار حول هذا الأمر، وكلما قلت له هذا شغب استمتع وزاد من شغبه، وحتي عندما سجل لي بعضا من سيرته جعل عنوانها «لمحات من سيرة عامل مصري مشاغب»، ونبدأ بحكايته عن نفسه، أمه فقدت كثيرا من أطفالها فلما ولدت عطية أسمته في الحارة «الشحات». الأب أسطي طباخ تفوق في مهنته حتي أصبح طباخ البيه مأمور ميت غمر، ثم انتقل ليعمل لدي الأسر الإقطاعية، والأم هي أيضا - ويا للغرابة - أسطي فرانة، بدأت «الأسطي هانم» فرانة في مخبز والدها وهي مهنة لا مجال فيها للنساء ثم تتلمذت علي الأسطي وردة «اليهودية» الخياطة. وعندما انتقل الأب إلي حلوان ليعمل لدي أسرة إقطاعية كبيرة عملت الأسطي هانم مقص دار في محلات عمر أفندي، وتعيش الأسرة حياة عادية لا معاناة فيها حتي يموت الأب وعطية في الثالثة من عمره، ثم تمرض الأم لكنها تعتصر من بقايا صحتها قوتا له وفرصة كي يتعلم في المدرسة الأولية لكن المصروفات «عشرون قرشاً في العام» تمثل عبئا ثقيلا علي الأم فيترك المدرسة وينتهي به الأمر إلي مدرسة تحفيظ القرآن حيث ختم القرآن وفي المسابقة كان عطية الأول علي القطر، وفي الاحتفال كان أوائل الابتدائية في الصفوف الأولي وحفظة القرآن في الصفوف الخلفية.. ولم ينس عطية ذلك، ولم ينس أيضا أنه لم يستطع شراء نسخة من هذه الصورة، والتحق عطية بالمعهد الأزهري.. لكن الفقر يلاحقه ويفرض عليه البحث عن لقمة خبز وعمل في مهن عديدة: صبي حداد.. صبي نحاس.. شيال في محطة السكة الحديد.. عامل قصعة في البنايات ثم عامل في الكامب الإنجليزي.. عامل رش مبيدات.. مقرئ في القرافة.. وأخيرا أصبح وهو محمل بكل هذا العذاب كمساريا في شركة اتحاد الأوتوبيس في زفتي وميت غمر، أسبوعان فقط اكتشف فيهما مدي الظلم الواقع علي العمال لا راحات نهائيا والمرتب هزيل، طالب بإجازة يومين في الشهر دون أجر، وسأله المدير:اجازة ليه؟ فقال: علشان نغسل هدومنا مرة كل أسبوعين، ورفض المدير مهددا إياهم بالفصل، فرد عطية «الأرزاق علي الله» وحتي هذه العبارة اعتبرها العمال شجاعة لا حدود لها.. واتخذوه زعيما، وخرج عطية من المقابلة ليرسل برقية إلي وزير الشئون الاجتماعية «نستصرخكم لرفع الظلم الواقع علينا، أغيثونا» وانقلبت الدنيا، فكيف لعامل أن يتحدي الشركة ويشكو للوزير، لكن عطية انتصر وأصبح «الشحات» زعيما عماليا انتشر صيته في كل ميت غمر ومنها إلي كوم النور حيث طالب في كلية الحقوق من أبناء كوم النور يعود كل إجازة صيفية هو كمال عبدالحليم، واتصل كمال بالشحات وأعطاه كتبا ولقنه محاضرات أضاءت أمامه سبل فجر متسع ومشرق من المعرفة، وأصبح عطية عضوا في الحركة المصرية للتحرر الوطني، وإذ تشتعل مصر بالمظاهرات ضد الاحتلال في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تذكر عطية بعضا مما دعاه من معرفة بالتاريخ، وتذكر ثورة 1919 في أعقاب الحرب العالمية الأولي، فجند بعضا من العمال والطلاب من الوفديين وغطوا جدران ميت غمر وزفتي والقري المجاورة بشعار تبدي للجميع مثيرا للدهشة لكنه منحهم حافزا قويا للثورة «يا شباب 1945 كن كشباب 1919» وبالفعل تفجرت ميت غمر بالمظاهرات وأسس عطية فيها مع الوفديين وعديد من النقابيين فرعا نشيطا للجنة الوطنية للطلبة والعمال، ومن ميت غمر إلي زفتي حيث حكي وحكي وبلا نهاية حكايات إعلان استقلال جمهورية زفتي علي يدي يوسف الجندي وتحت قيادته وانتفضت معه زفتي، وأصبح الشحات زعيما سياسيا، الكمساري المشاغب أصبح شيوعيا، لكنه ظل علي الدوام قادرا أن يمزج شغبه بشيوعيته، أو يمزج شيوعيته بشغبه سيان، ويصعد عطية سريعا في التنظيم الذي اتخذ اسم «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني - حدتو» والأسطي هانم أصبحت هي أيضا شريكة له في نضاله ودبرت له مخزنا للمطبوعات الحزبية ومخبئا للرفاق الهاربين أو المسئولين القادمين لمتابعة العمل الحزبي، ولم يجد خصوم عطية مطعنا عليه فأشاعوا أنه عميل لموسكو وأن موسكو ترسل له أموالا كثيرة، لكن الناس يتلفتون فيجدون الشحات شحاتا بالفعل ولا يمتلك أي شيء، وفي عام 1948 يتمرد عطية علي قرار قبول تقسيم فلسطين ويشكل مجموعة لتسافر للحرب في فلسطين ثم هو يجمع قروشا من قوت الفقراء ليرسلها إلي المقاتلين كي يعيشوا بها، فأكد خصومه أنها أموال آتية من موسكو، ولعل هذه الشائعات التي لاحقته كانت سببا في أنت جعل شغبه حادا كسكين، واستمر دوما حادا كسكين. ونتابع سيرة «الشحات» عطية الصيرفي في كتابة قادمة.