ثلاثون عاما مرت علي رحيل صلاح عبد الصبور الشاعر الفيلسوف صاحب التجربة الأبرز في قصيدة الحداثة المصرية في خمسينيات القرن الماضي والتي تجلت بوضوح في ديوانه الأول «الناس في بلادي» عام 1957، ثم تأكدت هذه الموهبة وحفرت مجراها- بعمق- في متن الشعرية العربية في دواوينه التالية «أقول لكم» 1961، و«أحلام الفارس القديم» 1964، و«تأملات في زمن جريح» 1970، و«شجر الليل» 1972، و«الابحار في الذاكرة» 1979.. ورغم هذه السنوات الطويلة علي رحيله لم يزل «صلاح عبد الصبور» حاضرا- وبقوة - في ذاكرة الأجيال الجديدة، ولم تزل قصائده حاضرة ومتجددة بتجدد اللحظة، لأنها تمتلك الوعي بالمستقبل والقدرة علي الاستشراف بما تحمله من عمق فلسفي وحس وجودي ورؤية كاشفة للزمن.الشاعر المتأمل الذي أدرك منذ بدايات الكتابة أن التأمل هو سر الإبداع وجوهر التألق فعلي حد تعبيره في كتابه «حياتي في الشعر»: «ليس تاريخ المعرفة الانسانية ، بأوجهها العقلية والحدسية والتجريبية إلا تاريخ هذا التأمل الإنساني في ذاته، وليست مخاطراته إلا مخاطرات نظر الصورة في المرآة، فمعني هذا النظر درجة من الانفصال والثنائية، وقدر من العداوة والمحبة معا، ولذة اكتشاف الحقيقة وألمه، فوعي الذات هو نقطة انطلاق نقد الذات الذي هو الخطوة الأولي في رحلة التقدم». التشكيل الشعري وهو أول شعراء قصيدة «الشعر الحر» من وجهة نظري في العالم العربي الذين اهتموا بفكرة «التشكيل في الشعر» متخذا من مقولة «جوته» «الفن تشكيل قبل أن يكون جمالا»، لذا اهتم بعناصر اساسية في قصيدته وأولها «عنصر المفارقة»، والرغبة العارمة في توليد الصورة الشعرية، والانحياز إلي الذات في مواجهة العالم، وإن جاء ذلك من خلال تأملات فلسفية ، وربما هذا العنصر الأخير ما جعل كثيرا من قصائده تصطبغ بالحزن والشجن. هناك شيء في نفوسنا حزين قد يختفي، ولا يبين لكنه مكنون شيء غريب.. غامض.. حنون لعله التذكار تذكار يوم تافه بلا قرار أو ليلة قد ضمها النسيان في إزار هذا الحزن الشفيف الذي يخرج من الذات ليعبر عن ألم العالم، وهذا ما نراه واضحا من اقترابه من الفلسفة المادية في ديوانه الأول «الناس في بلادي» حيث نري «ثنائية الموت والحياة» تتردد بقوة، هذه الفلسفة التي اقترب منها اقترابا كبيرا وبخاصة بعد تخرجه في الجامعة عام 1951، ففي القصيدة المعنون بها الديوان يحكي قصة قرية ريفية. الناس في بلادي جارحون كالصقور غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة الشجر وضحكهم زئير كاللهيب في الحطب خطاهمو تريد أن تسوخ في التراب ويقتلون، سيرفون، يشربون، يخشأون لكنهم بشر وطيبون حين يملكون قبضتي نقود ومؤمنون بالقدر شعرية التفاصيل ويعد «عبد الصبور» هو أول من أهتم بما يسمي ب «شعرية التفاصيل»، وهي إحدي خصائص القصيدة الما بعد حداثية، أي أنه كان متجاوزا للمدرسة الشعرية التي كان يكتب من خلالها. بالإضافة إلي ذلك نجد ذلك الحس الصوفي الدافق خاصة في ديوانه «أحلام الفارس القديم» ومنها قصيدته «مذكرات الصوفي بشبرا كافي» والتي يقول مطلعها: حين فقدنا الرضا بما يريد القضا لم تنزل الامطار لم تورق الاشجار لم تلمع الأثمار حين فقدنا الرضا حين فقدنا الضحك ويبلغ هذا الحس ذروته في قوله: اللفظ حجر اللفظ منية فإذا ركبت كلاما فوق كلام من بينهما استولدت كلام لرأيت الدنيا مولودا بشعا وتمنيت الموت ارجوك الصمت الصمت! ويأتي ختام القصيدة معبرا عن مأساة الإنسان علي الأرض، حيث يسعي من مستحيل إلي مستحيل: يا شيخي الطيب! هل تدري في أي الأيام نعيش؟ هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامن من أيام الاسبوع الخامس في الشهر الثالث عشر الإنسان الإنسان عبر من أعوام ومضي لم يعرفه بشر حفر الحصباء ، ونام وتغطي بالآلام.. ثم تجئ مسرحيته «مأساة الحلاج» لترسم ملامح جديدة للمسرح الشعري العربي، ولتكون أهم تراجيديا شعرية عربية حتي الآن، بما فيها من نقد سياسي واجتماعي مغلف برؤية صوفية تاريخية، ليمتد هذا الخيط في مسرحياته التالية «الأميرة تنتظر» و«بعد أن يموت الملك» و«ليلي والمجنون». وهكذا ابحر صلاح عبد الصبور في ذاكرة الشعر ليستخرج منه حياة كاملة، مليئة بالتفاصيل والرؤي الوثابه التي تخترق كل الأزمنة لتعيش فيها.