في الحلقة السابقة من قراءته التحليلية لكتاب إلي صديق «إسرائيلي» ذكر الزميل مصطفي نور الدين أن مؤلف الكتاب ريجيس دوبريه وصف إسرائيل بطفل مريض بحالة من «الانطواء علي الذات» مشيرا إلي أن هذا الوضع جعل الدولة العبرية مخزنا للسلاح وأن حديثها الدائم عن كيانها الهش تلته مبالغة في استخدامه خلف أي مشاعر مبالغ فيها، ودعا دوبريه إلي التخلي عن أوهامها وأن يكون خوفها من قوتها ذاتها. وفي هذه الحلقة من قراءة نور الدين يستنتج "دوبريه" طبيعة الفلسفة التاريخية التي تمارس في الغرب أيضا كل يوم فيقول: "ونعرف أنه عندما يضع مجتمع ما كلمة بدلا من وجه ويغلق أقلية في فئة (عربي، تركي، يهودي...) ويخفي الخصوصية في عمومية فهو مجتمع في سبيله لممارسة سياسة العزل والتجريم." ويطبق ذلك علي ما حدث إبان العدوان الإسرائيلي علي غزة فيقول: "ففي حربكم علي غزة لم يشاهد الإسرائيلي ما شاهده العربي إذ فرضتم حصارا بصريا علي الشاهد الخارجي من صحفيين وغيرهم إذ كلما قلت رؤية المذبحة نجحت. فما شاهده الإسرائيلي تمركز حول مدينة "سديروت" والإسراع للمخابئ وصفارات الإنذار في المدارس وسقوط سقف منزل، ولفظ "قطة" لنفسها الأخير !" ويضيف: "إن تلك الإستراتجية لم تنجح تماما من سوء حظكم إذ كان مراسلو تليفزيون "الجزيرة" في غزة وفي إسرائيل ولذا فالعرب والغربيون لم يشاهدوا نفس الحرب أي ما يسمي "بالعمي الاختياري". فما لا نراه لا نعرفه. فآلاف من المشاهدين الإسرائيليين شاهدوا بالمصادفة الطبيب الفلسطيني "عز الدين أبو العيش" حينما طلبه صحفي علي هاتفه الجوال في نفس اللحظة التي قتلت قذيفة دبابة إسرائيلية ثلاث من بناته. ولولا هذا الحدث ما عرف منهم أحد طبيعة ما يحدث في غزة." ويحكي "دوبريه" عما حدث له إبان زيارته لغزة قبل الانسحاب الإسرائيلي منها فيقول: "إن الواقعة التي أشعرته بالغيظ بسيطة. فسوف يترك جانيا الطابور الصباحي للفلسطينيين في عز الحر لساعات طويلة في انتظار السماح لهم بالمرور والكلاب البوليسية في مواجهة مجموعة من الأطفال التي تبدي رعبها والدبابات في مواجهة التجمعات. فالواقعة هي مجرد مسألة مرور سيارات. إذ كان بسيارة بصحبة "قس" في طريق ترابي "وصدر أمر بإيقاف حركة المرور لأكثر من نصف الساعة وتصور وقوع حادث غير أن تعطيل المرور كان لمجرد انتظار مرور سيارة رباعية الدفع لأسرة إسرائيلية علي طريق إسفلتي علي بعد مائة متر حيث الأطفال ينظرون من النوافذ بسعادة والأم لوحتها الشمس والأب يهفهف شعره." ثم بفتح الطريق "ويتسلي الجنود ويستمتعون بإخراج عائلات فلسطينية من سياراتها لتفتيشها وتركهم يتحرقون بأشعة الشمس." وسمع "دوبريه" نصيحة سائق التاكسي الذي يقلهم : "لا تنظر في عيني الجنود واخفض وجهك فهم أسيادنا". ويضيف أن بعض الإسرائيليين يعانون من شعورهم بالتسبب في معاناة الفلسطينيين ولكنهم قلة نادرة. فليست كراهية العرب هي المشكلة وإنما إهمالهم وعدم الاهتمام بأمرهم فتلك هي المشكلة الكبري. فإسرائيلي من "القدسالغربية" لا يذهب إلي "القدسالشرقية" فهي بالنسبة له عديمة القيمة فالأقرب أن نحدثه عن القمر. فالفلسطينيون لا وجود لهم إلا عندما تسيل دماء في عملية تفجير." عزل الآخر ويقول "دوبريه" عن المجتمع الإسرائيلي مخاطبا "بارنافي": "إن لديكم مشكلة تجاه الآخر. ليس الآخر الذي يطرح في الندوات الفلسفية ولكن ذلك المجاور ويقلقكم بوجوده. وبقدر انتقاد الركوع أمام الآخر فلا توجد أسباب لقبول وضع الآخر علي ركبتيه أو حبسه في قفص أو عدم رؤيته." ويوازي "دوبريه" بين هذا الواقع الإسرائيلي وندوة عقدت بباريس شارك بها سبع شخصيات مرموقة من بينها "إيلي بارنافي" لمناقشة "العلاقة اليهودية - الفلسطينية" ولم يكن علي المنصة شخصية فلسطينية واحدة ولو كصورة. أي غياب النصف الآخر الذي تخصه المسألة موضوع النقاش." يهود ضد مسلمين ويقدم "دوبريه" صورة لما يراه من "أسلمة" في الجانب الفلسطيني في موازاة "تهويد" في الجانب الإسرائيلي وهو لا يعني هنا "بالأسلمة" دفع الغير إلي التحول للإسلام وإنما العودة للمشاعر الدينية الإسلامية كما هو أيضا بشأن اليهودية مع اختلاف في أن التهويد يلحق بالمكان المحتل واعتباره هدية ربانية. فيقول: "الهوية تتأرجح "بين الكلب والذئب" وتغلب فيها كفة الذئب. فلم تعد المسألة صراعا بين حركتين قوميتين تتنازعان نفس الأرض بل صراع بين كتلتين دينيتين من اجل عزة الرب. فيهود ضد مسلمين وليس إسرائيليون ضد عرب لا يعتبر بعملية حسابية جيدة لا بمفهوم الجغرافيا السياسية ولا بالمفهوم السكاني." ويتساءل "دوبريه" لعل سبب تأجج المشاعر الدينية والانغلاق علي الذات راجع إلي أن نصف يهود إسرائيل هاجروا إليها من العالم العربي. ثم يتناول بوضوح تصوره لما تسعي إسرائيل له وأكده في كتابات أخري فيقول: "إن سياسة محاصرة الآخر أو قتله والقول "بأنه لا يوجد شريك نتباحث معه" هو لكي لا يتم تصور دولة فلسطينية ولكن مقاطعة معزولة عرقيا بقلة من الجاليات المحلية المحرومة من السيطرة علي حدودها وعلي مجالها الجوي وبدون دبلوماسية. فهو ليس باعتراف واضح بحق في الاستقلال لشعب ولكن مجرد الموافقة علي وجود حزام يحمي أمنكم بشكل أفضل. علاوة علي رفض اقتسام المياه بالعدل والاستيلاء علي الأراضي الزراعية لتصبح من ملكيتكم والملكية سرقة كما يقول الفيلسوف "برودون". ثم يعاود "دوبريه" التساؤل عن بناء الجدار العازل وهل كان ذلك في توافق مع الرفض القاطع من قبل إسرائيل لمقترحات أو "خطة الملك عبد الله"، في 2002، وهي الخطة التي قبلها أكثر الرافضين في العالم العربي والتي كانت تمثل أقصي أحلام صهيوني في 1948." ويضيف أسئلته ساخرا: "فهل علي خصومكم تقع مسئولية عدم تطبيق الحلول العادلة والتي من السهل تحديدها وتطبيقها ؟ فمقررات طابا واتفاق جنيف ومقررات كلينتون لم تر أبدا النور ! فهل إرادة واحدة ضد الكل هي المفضلة علي المصلحة العامة برغم ما يعنيه ذلك من عواقب بفتح الباب علي مصراعيه أمام كل المتشددين ؟ فعبارتكم التي ترددونها هي : "الكل ضدنا .. نحن وحدنا في العالم. ثم تغلقون علي أنفسكم المنافذ وتصفعون الأبواب وتغضبون." ويحذر "دوبريه": "برغم هجرة مليون يهودي روسي لإسرائيل فإنه بعد عقد من الزمن سيصبح العرب أغلبية في أرض التقسيم لأنه لن يتحقق الحلم الخيالي بأنه في يوم ما سوف تستيقظون فلا تجدون من أحد في الطرف الآخر. ألا يدفع ذلك رجال السياسة لديكم للتوصل للحلول التي تحققت في أماكن أخري من العالم ؟ فبدون اتفاق مع "حماس" لن يتم التوصل لحل ولو مرحلي كما لن يوجد حل في لبنان بدون "حزب الله." ثم يقول إن بإسرائيل من تفهم تلك الحقيقة: "من الضروري أن نتمكن من وضع أنفسنا محل الآخر والتفكير كما يفكر ونستشعر ما يشعر به. والعديد من الإسرائيليين خطوا تلك الخطوة ومنهم علي سبيل المثال جمعيات:"رجال الفيزياء من أجل حقوق الإنسان" وأعضاء "بيت السلام" و"التعايش" وصحفيون مثل "جيدون ليفي" و"أميرة هاس" بل نجم الدولة "الان بورج" رئيس الكنيست سابقا وابنة "ديان" و23 طيارا فقدوا وظيفتهم لرفضهم المشاركة في عمليات عسكرية في الأراضي المحتلة واعتبروها غير أخلاقية.