الجريمة والعناق! كل وزارة في مصر بها أكثر من شعلان.. وكل وزارة في مصر بها أكثر من مائة قضية علي غرار «زهرة الخشخاش» وأكثر من مائة ملف لانحرافات وفساد.. ولا يقترب منها أحد خوفا من التشويش علي الإنجازات. هل من المعقول.. ونحن في الأحوال التي نعيشها من انتشار الإهمال والتسيب والجشع.. وعدم جدوي التفاني في العمل.. وانحطاط الذوق العام.. وممارسة النصب والاحتيال بتربية الذقون.. أن تنتهي جريمة الإهمال التي أدت لسرقة لوحة زهرة الخشخاش بالمصالحة والأحضان بين فاروق حسني ومحسن شعلان؟ هل كان الخلاف بين الوزير.. والمسئول الأول عن أمن متحف محمود خليل.. خلافا تمحوه القبلات وأن تتم المصالحة في مكتب فاروق حسني علي طريقة «اليوم عاد.. وكأن شيئا لم يكن»؟ هل يصح.. ونحن في الظروف التي ليست خافية علي أحد.. أن يوجه حكامنا «رسالة».. لشباب هذه الأمة.. بأن الجرائم الكبري تمحوها القبلات والأحضان؟! إن الرسالة السياسية التي وجهها اللقاء الحار بين الفنان فاروق حسني.. ومحسن شعلان.. في مبني وزارة الثقافة.. تعني أن ما يردده حكامنا ضعاف الإدراك.. حول عزمهم الإصلاح.. ومكافحة الفساد.. والتسيب هو محض كذب وافتراء ويسير علي نمط الصور التعبيرية التي تنشرها صحفهم. هي رسالة تعني أن القانون في بلدنا لا يعرف سوي الراقصة «هياتم» التي دخلت السجن بتهمة التزوير في تاريخ ميلادها.. وأن أصدقاء حكامنا الذين يشغلون العديد من الوظائف.. ويتقاضون الرواتب والمكافآت والحوافز.. لا يخضعون للقوانين.. وأن ما يرتكبوه من جرائم وأخطاء ينتهي بالأحضان. أحضان ليست ككل الأحضان.. ولا أحد يعرف متي تبدأ.. ولا كيف تنتهي! والسخيف في الموضوع أن هذه الأحضان جاءت في وقت نحن في أمس الحاجة فيه لتوجيه الرسائل السياسية التي تؤكد جدية حكامنا في ضبط إيقاع جهازنا الإداري.. ومكافحة التسيب والإهمال.. وتوقيع العقوبات.. علي كبار الموظفين.. قبل توقيعها علي صغارهم.. لأن الأسماك تفسد من رؤسها.. وحتي تكون العقوبة علي الكبير ردعا لكل مهمل يستحل المال العام.. ولا يؤدي ما يتعين عليه القيام به من واجبات تتعلق بوظيفته. فنحن هنا لا نتحدث عن القيمة الفنية للوحة المسروقة.. ولا قيمتها المادية وسعرها في الأسواق إلخ. نحن نتحدث عن إهمال أدي لسرقة.. بصرف النظر عن قيمة المسروقات.. لأنه ليس من المعقول أن نصدر حكم البراءة علي سائق أرعن.. لأن القتيل الذي سقط تحت عجلات سيارته من محدودي الدخل.. أو أنه ممن لا يباشرون عملا من الأعمال، بحكم البطالة! يقول محسن شعلان إن لوحة زهرة الخشخاش هي من قبيل «الزبالة».. ويقول فاروق حسني إن سرقة اللوحة ليست «نهاية الدنيا» وأن فان جوخ.. قام بإبداع هذه اللوحة.. في بدايات حياته الفنية.. وأن هذه اللوحة لا قيمة لها.. وهو كلام يخرج بنا علي الموضوع.. ويدخل في باب الخديعة ولكنه في الوقت نفسه يحط من شأن حكامنا في عيون العالم.. وفي عيون الملايين من عشاق الفن في ربوع الكرة الأرضية.. ويكشف المستويات المتدنية للمسئولين عن الفن والثقافة في مصر. فنحن لا نستطيع التقليل من شأن أعمال ليوناردو دافنشي لأنه أبدعها في بداية حياته.. ولا أعمال الفنان الهولندي رمبرانت الذي يعتبر من أكبر الفنانين علي مر العصور.. وأنتج خلال حياته 100 لوحة تمتد من سن الشباب إلي سن الشيخوخة.. من أشهرها لوحة «حراس الليل» التي أبدعها في بدايات حياته.. والأمثلة لا تقع تحت حصر. بل إن أعمال فان جوخ.. كانت امتدادا للعصور السابقة علي عصره.. وانفرد بأعمال كان له فيها سبق الريادة.. وتركزت علي تقريب الناس إلي الطبيعة عبر الفن.. وأثارت إعجاب معلمي الفن ورواده الكبار.. ونجح بالتعاون مع الفنان بول جوجان.. في إقامة مستوطنة خاصة للفنانين 1888.. حيث وضع أشهر لوحاته وهي «زهور عباد الشمس» و«زهرة الخشخاش» و«نظرة إلي ارليس» وهي القرية التي أقام بها المستوطنة.. سنة 1888. وآرليس مدينة أنشأها يوليوس قيصر علي نهر الرون ولها تاريخ عريق يمتد إلي ما يزيد علي ألفي سنة.. ولم نسمع أنها فقدت قيمتها.. بسبب قدمها.. وأن عشوائية «اسطبل عنتر» في قلب القاهرة أفضل منها لأنها عشوائية حديثة. والسخيف في الموضوع.. أن تصدر تعليقات الحط من شأن لوحة «زهرة الخشخاش» من أفواه كبار المسئولين عن الفن في بلدنا.. ووسط صمت الرأي العام المشغول بأزمة الطماطم.. في الوقت الذي تسعي فيه منظمة «الإنتربول» للبحث عن اللوحة المفقودة التي يعلن أصحابها سلفا.. أنها «زبالة» أو أن فقدها ليس نهاية الدنيا! وعلي أي حال.. فنحن لسنا.. في هذه السطور.. بصدد الدخول في مهاترات تقييم الأعمال الفنية لرواد الفن التي أبدعوها في بداية مشوارهم الفني.. والقول بأن أغاني أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وسيد درويش لم تعد لها قيمة.. وأننا نستطيع بيعها لشركة «روتانا» برخص التراب، لأن هذه الأعمال أبدعت في بدايات المشوار الفني لكل منهم.. أو ندعي أن أهرامات الجيزة.. باتت منتهية الصلاحية إلخ. ليس ذلك موضوعنا. نحن نتحدث عن جانب آخر.. يتعلق بإصلاح جهازنا الإداري في ظل فساد وتسيب وإهمال.. لم تعرفه مصر في تاريخها كله.. وتطهير هذا الجهاز من رجس المحسوبيات وتعيين كبار موظفي الدولة في مواقع لا تتفق مع قدراتهم ولا ثقافتهم ولا مجال تخصصهم. نحن نتحدث عن الأولويات في إصلاح الجهاز الإداري للدولة.. وفي مقدمتها وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.. لأنه لم يعد ثمة شك في أن تراجع الخدمات من تعليم وصحة.. وحكم محلي في كل محافظات مصر.. يعود لسبب واحد.. هو المحسوبيات في تعيين كبار موظفي الدولة. فاللقاء بين فاروق حسني وزير الثقافة ومحسن شعلان بعد عشرة أيام فقط من خروج الأخير من السجن.. لم يكن لقاء موظف كبير بوزير مسئول.. وإنما كان لقاء أصدقاء.. تم خلاله تبادل كلمات الإطراء.. فقال الوزير إنه يستقبل شعلان باعتباره عضوا مهما في وزارة الثقافة.. وفنانا أيضا (!!) وقال الوزير حسني في إطراء محسن إنه سعيد بعودته لمنزله وأولاده وفنه.. ومن يعمل في الوزارة لا يتخل عنها (!!) لأنها وزارة إبداع وابتكار (!!) والمبدع يلتصق بها طوال حياته (!!) وقال الوزير حول عودة محسن شعلان لوظائفه المتعددة والمتنوعة.. إن المسألة فيها جانب قانوني لأن القضية لا تزال قيد التحقيقات.. لكن والكلام لا يزال للوزير.. يمكن تعيينه مستشارا من الفئة الممتازة.. وهي أعلي فئة بالوزارة (!!) من جانبه قال شعلان إنه ابن الوزارة وحسني هو القائد وإنه يري ما حدث بخيال الفنان ويراها حربا «اتخبطنا» فيها احنا الاثنين ولابد من لم الشمل!! وهو كلام ينطوي علي ازدراء تام للعدالة.. لأن القضية لا تزال تحت التحقيق.. علاوة علي تأثيره علي القضاة لأن تصريحات فاروق حسني.. صدرت عن سلطة سياسية.. وداخل مبني الوزارة.. ولم تكن مجرد كلمات عاطفية بين اثنين من الأصدقاء يجلسان فوق مقعدين متقابلين في إحدي المقاهي البلدية.. يدخنان الشيشة من مبسم واحد. وإذا كان الكاتب الصحفي يدخل السجن.. لأنه كتب ما يمكن اعتباره تأثيرا علي القضاء.. فما بالك بوزير مسئول يستقبل متهما في مكتبه.. ويقترح تعيينه مستشارا بالدرجة الممتازة؟! وبالمناسبة.. نحن لا ندين شعلان.. ولسنا في خصومة معه.. ولا مع الوزير الذي نكن له كل احترام.. ونقدر له مواقفه وإنجازاته التي دأبنا علي الإشادة بها.. ولكننا نقف اليوم.. أمام القضية الأهم.. وهي التدهور المروع في الجهاز الإداري للدولة.. الذي أدي بدوره لوصول الفساد في هذا الجهاز الحيوي إلي الركب.. علي حد ما جاء تحت القبة في مجلس الشعب. لقد كانت قضية محسن شعلان فرصة للبحث عن سيناريوهات لإصلاح الجهاز الإداري.. والمحسوبيات الصارخة في تعيين كبار موظفي الدولة.. وترتيب الأولويات لهز الجهاز الإداري وإعادة النظر في أوضاعه الحالية.. وطرح قضية الإصلاح الإداري علي الرأي العام واعتبارها قضية لها الأولوية.. والبحث عن أساليب جديدة لاختيار الكفاءات المناسبة في المواقع التي تتفق مع قدراتها.. ومصارحة الناس بالواقع ليكونوا شركاء في الإصلاح إلخ. فمن اللافت للنظر في المقال الذي نشره شعلان.. وهو في محبسه.. قوله: إن وظيفتي لم تكن فقط رعاية المتاحف (!!) ولكن هناك أبعادا أخري تهدف لتفعيل الحركة التشكيلية بالداخل والخارج (!!) علاوة علي رسم سياسات للمجتمع بأسره ومجابهة القبح وانحدار السلوك الجمالي بالشارع المصري (!!) والكلام لا يزال لشعلان في مقاله المنشور بالمصري اليوم يوم الأحد 12 سبتمبر 2010 فيقول: إن من بين مسئولياته دفع واكتشاف المواهب من الشباب وإطلاق الفرص الكاملة لهم للإبداع والتواجد المحلي والدولي (!!) علاوة علي مشروعات المجتمع كمشروع المائة مدرسة الذي تعاون فيه بكل طاقاته.. وفتح أبواب المتاحف وقاعات المعارض لاستقبال أطفال مصر بهدف تنويرهم والسعي لنبوغهم لتحقيق تجربة رائدة تهدف إلي الوصول إلي الطفل النموذج رغما عن ظروفه المحدودة ومجتمعه البسيط وذلك بالتعاون الكامل مع المدارس (!!) وهذا الكلام الذي نشره شعلان علي الملأ يضع أيدينا علي أهم الثغرات في جهازنا الإداري.. لأن هذه الظاهرة لا تتعلق بشعلان وحده ولا بوزارة الثقافة وحدها.. وإنما تتعلق بجميع وزارات مصر ومحافظاتها.. وهي ظاهرة «رجال الوزير» أو «رجال المحافظ» أو «رجال المسئول الكبير».. الذين تسند إليهم «حزمة» من الوظائف.. يدرك كل طرف في الدولة أنه من المستحيل أن يقوم بها شخص واحد.. علي الوجه المنشود. مجموعة هائلة من الوظائف التي تدر لصاحبها العديد من الرواتب والحوافز وبدلات حضور الجلسات.. ولا يقوم بها في الواقع.. أحد. هي وظائف شاغرة.. يشغلها شخص واحد «مسنود» لا يخضع للمحاسبة ولا المساءلة. كل وزارة في مصر بها أكثر من شعلان. وكل وزارة في مصر بها أكثر من مائة قضية علي غرار «زهرة الخشخاش».. وأكثر من مائة ملف لانحرافات وفساد ولا يقترب منها أحد. ملف زهرة الخشخاش.. فرض نفسه علي الرأي العام.. لأنه كان من المستحيل التستر علي اختفاء اللوحة.. وبالتالي اتجهت أصابع الاتهام إلي شعلان الذي يقول «إن وظيفتي لم تكن فقط رعاية المتاحف» (!!) وإذا كان شعلان صادقا.. فيما ذكره من مسئوليات تقع علي عاتقه.. وأظنه صادقا.. فإن المسئولية هنا تقع علي عاتق الوزير.. وعلي القوانين المنظمة لتعيين الموظفين.. لأنه ليس من المعقول إسناد هذه الوظائف التي يقتضي القيام بها لعشرات التخصصات.. إلي «فنان» لا علاقة له.. لا بالإدارة.. ولا بالأمن.. ولا بالتعامل مع الأجهزة الحديثة المستخدمة في حراسة المتاحف. والخطير في الموضوع أن رئاسة الوزراء تعلم بمئات الملفات من عينة ملف شعلان في كل وزارات الدولة.. ولكنها لا تتجاسر علي فتحها.. حتي لا تدخل في صدام مع الوزير.. الذي تظهر صوره في صحف الحكومة.. مع من بيدهم مفاتيح اليسر.. ومفاتيح العسر!! أما الحزب الوطني السرمدي.. فيري أن الكشف عن الفساد في الأجهزة الإدارية.. هو تشويش علي أهم إنجازاته.