لماذا نعدل قديما، ولماذا نكتب جديدا؟ وأساسا لماذا أسقطنا أقدم؟ فلنتخيل لو أننا قلنا لا للتعديلات الدستورية، وكتبنا دستورا ساعتها، فهل نحن الآن نسعي لأن نكتب ما فاتنا في 2011 ؟! أو في 1954. ظني أننا بهذا نعمل عمل الموظف البيروقراطي الذي يعيش منعزلا داخل أرشيفه، غير عابئين بالتجربة التي دخلت فيها مصر في أطول عامين ونصف مروا علي أرض الكنانة، أو يمكن لأي أمة أن تعيشها. وكأن تلك التجربة لم تنعكس علي إدراك كنه الدولة المصرية. وكأن حبلا لم يشتد ويتصل ليربط تاريخنا، قديمه وحديثه، ويبصرنا بأبجدياتنا التي كادت تنمحي، وبالألغام الدقيقة المطمورة في ربوع الوطن وعلي حدوده و في قادم أيامه، والتي حلنا دون أن تنفجر في وجهنا دفعة واحدة، لتتناثر ذات اليمين وذات اليسار .أنا لا أريد أن أكتب ما حُرمت من كتابته عام 2012، أو أن أثأر لما استغلق علي فهمي حين أسقطنا دستور 1971، ولم نجن غير إعلان دستوري سمح بقيام أحزاب علي مرجعية دينية عام 2011 ! أنا أريد أن أكتب قصة التشوهات التي طالت الدين والمخاطر التي حاقت بالوطن من جراء استخدام الدين كحامل شعبي يأتي علي أكتافه الحزب الحاكم ليغتصب الوطن ويمتطي أعمدته، ويأمر بما ينافي مصلحة الدولة المصرية ، فإن لم تنصاع يدكها، الأعمدة والدولة معا. أريد لتستوعب القصة معني تعبير ( الترسانة الدعوية ) الذي أطلقه تنظيمهم الدولي في اجتماعه بتركيا، تلك الترسانة التي صنَّعت أسلحتها في مصر عبر عقود، ليس من حديد بل أثير من كلمات تنطلق عبر الميكروفونات، فالقنوات المحلية، فالفضائية، وتُطبع رصاصا مسموما في أوراق. أريد لعام مضي أن يكون دليلا قاطعا علي فشل الجناس الناقص بين الشريعة والشرعية في احتواء معني مصر . وعليه فإنها ليست مغالبة تيار " مدني" علي تيار " إسلامي "، أو معركة سياسية كما يسوق بقايا المنتفعين من الواجهة الدينية، أو من يظن ذلك من القوي السياسية داخل لجنة الخمسين ! الهوية ليست مواد كما يسوّق المتاجرون. الهوية ما أعاد اكتشافها الوجدان الجمعي المصري، وما كانت من الأسئلة المطروحة في أجندة 25 يناير، لكن عام الاخوان وحلفائهم صهر المصريين وقلَّبهم علي أوجاع الماضي البعيد والقريب، ومخاوف المستقبل بالدرجة التي تمثلت فيه الجموع التي خرجت في 30 يونيو جوهر هويتها التي كادت تنطمس وجلتها جلوة صائغ تاريخ عبقري، وحدت بصرها فامتلأت ثقة بمسار الخروج نحو أهداف تاهت في خضم معركة الخدع، وحيل التزييف،والإذلال المعنوي والمادي … تجلت حقيقة أنك تملك أكبر تجمع للمسيحيين في الشرق الأوسط تحيطهم وتضمهم أغلبية مسلمة، وتشع روحانية المهد المسيحي علي الكل الوطني. انبعثت من رقادها فكرة أنك لست فقط تضم قسطا وافرا يحارون في تحديده من آثارالعالم القديم والوسيط، بل أنت مؤتمن علي الضمير الإنساني. أنك شعب يحمل بين طياته التاريخية وربوعه أزهر الألف عام، ويزيد، ومدينة الألف مئذنة، وسينما المائة عام، ويزيد، إذ شهدت الإسكندرية – بعد أيام من ظهوره في باريس – هذا السحر اللانهائي في خيالات المبدعين عبر الأجيال ! أنت كل هذا وأنا كل هذا، وهو حمل ثقيل قد تنوء به الجبال، وتقصر الشعوب عن حمل أمانته وتعقداته، وتتعثر وقد تنكفيء. لكن اللحظة واتتنا وثمن الاستيعاب سددناه ونسدده، كاملا ويزيد، وخرجنا . وأنتم جالسون تكتبون دستور مصر الأحدث لا يفوتنكم هتافات العام الماضي ضد جميع أشكال النفاق الديني والفتنة الطائفية، ولا يغيب عن أسماعكم أجراس الكنائس التي دقت مع آذان المغرب صوما واحدا، ولاتترفعوا علي حلة المحشي الألومنيوم في الميدان، والمدعوكة بسلك الالومنيوم، تقلبها المرأة فينعكس مشهد الوفاق الوطني في وهجها، بينما تنطق بخلاصات الحكمة التي أنضجتها النار الهادئة طويلة النفس . لايغيب عنكم دبيب أقدامنا في طول البلاد وعرضها، ولا سعة الخطوة الهاربة من الحكم الفظ عدو الحضارة . وما تمكن أعداء الحضارة إلا بانهيار مقومات الحضارة. لا يغرنكم انكشاف المؤامرة وحجم الخداع عن العوامل التي مكنتهم من تنفيذ المؤامرة والخداع. فما كانت نقطة التلاقي الطهور في الميدان أول مرة ، والطاقة المحيطة بها، والممتدة حتي ملازمي البيوت والحجرات في طول البلاد وعرضها إلا جماع مظالم تنسمت عدلا مقبلا، وراودها أمل في حياة كريمة، وترقبت إزاحة الغمة . فليكن نصب أعيننا عوامل ضعف الدولة المصرية من استشراء جهل، وفقر،وإذلال المواطن المصري إذلالا شاملا ينتهك حقوق روحه وعقله وبدنه. كانت المظلومية واسعة النطاق، وعكس الميدان ظلم قطاعات وطبقات من الشعب للشعب، وجيل لأجيال . ظلمت العاصمة الأقاليم وأخرجت فضلاتها لفضاءات العشوائيات، وبغت الحضر علي القري والنجوع، وتجاهلنا الصعيد والأطراف الحدودية، بنيته السكانية والفكرية حتي استيقظنا علي غربة نشأت لا تعبر فقط عن اختلاف تقاليد وأعراف، بل ربما طالت انتماءً وعقيدة. ( أعلم أن القصة لن تحتمل التفاصيل مساحةً وزمناً، لكن ثمة تفاصيل تفجر قصة قصيرة بامتياز. أحيل اللجنة الموقرة لخريطة أصابتني بالهلع. عرضت إحدي القنوات الفضائية خريطة بمساحات من الأحمر والأزرق تميز المحافظات التي انتصرت لأي من مرشحي الرئاسة في 2012، فبدت كخريطة انقسام مروع بغض النظر عن النتيجة. هي في ذاتها دلالة انفراط وانقسام . ) تسمَّعوا صدي الآهة الكبري التي خرجت من جوف الصمت الطويل دفاعا عن حرية وعن كرامة كادت من فرط قوتها وإصرارها وطموحها أن تهز أركان الوطن ذاته، وتهدد دعائم سلامته وأمنه القومي، لأن الثقة تزعزعت بالكل، من قبل ومن بعد، حتي بات التخوين مشاعا، والكفاءة مدانة، وقطيعة معرفية وتاريخية تفصل الشباب الوطني الأنبل عن الكل، فتعثر الجميع . ووصلنا إلي النقطة صفر من الحركة عندما أصبح الشيء ونقيضه علي خط واحد وبنفس ذات القوة : الشرطة حامي الشعب وحارس سلامته، ومصدر بطشه وتهديده ومحل إيلامه . والقضاء في قفص الاتهام . من التجربة المصرية في ينايرها ويونيوها، من البعث والسراب، والسقوط والقيامة، تكون القصة. لا تشفُّوا الدساتير السابقة شفا، بل استعينوا بخزائن حكمتها، والفظوا مواطن وبواعث تلعثمها وانحرافاتها. يقولون لن نخترع العجلة. أو لم تخترع ( تمرد ) عجلة شعبية دفعتنا الدفعة التي تكاسل عنها علماء السياسة والقوي السياسية التي استنامت للصيغ القديمة الجاهزة والنمطية التي كادت تودي بالبلاد إلي حتفها. من تراث بعيد للديمقراطية المباشرة علي عهد الإغريق، وتوكيلات للوفد المصري من تاريخ مصر الحديث وثورة 1919، ووعي بالمارد الجماهيري الذي انتفض في يناير 2011 اخترع ( تمرد ) العجلة الثورية الجديدة، واستعدل المسار. ربما لا تكفي رواية بل روايات ما بعد حداثية لترصد مدي التناقضات، وتزامن الأضداد، والتشكك في كل نص وكل راو، لكني أقترح قصة قصيرة، وربما أقصوصة، تعادل الديباجة في التقليد الدستوري، تستلهم تكاثف الزمن المفاجيء والحاسم في عمر مصر المديد، والذي اختزل في إيقاعه وصوره ودراميته أسئلة الوعي الكبري وقلب موازين عالم ! أريد لابني أن يقرأها قطعةً أدبية مثيرة للتأمل والتمعن من فرط إدماجها لتاريخ مركَّب . من اختناق الماضي يتسع نطاق المستقبل ومعالمه ومنطلقاته. عندما نضمّن القصة القصيرة عمر السنين التي ضاعت علي مصر وأهلها، وتتوهج حروفها بحرقة أمهات الشهداء وتثور من فداحة الخداع الذي مورس علي شعب أبي فراز، وبما يقابل عِظَم المخاطر التي هددت الوطن والمنطقة العربية … لو أننا اسطعنا أن نكتب ما يشعر أبناءنا بعزم لا يلين للقضاء علي أسباب الفتنة والذل، وكتبنا سطورا تتجلي فيها الوطنية المصرية بحروف من دم سال، كل الدم ، لسطعت الديباجة بأحلام شباب وشابات، وكهول وعجائز وشيوخ، خرجوا حقا من أجل مصر . عندئذ سنكون اخترعنا العجلة المصرية. وتدور الكليات والمبادئ العامة يسيرة في المتن. أهتم كثيرا بديباجة تستقطر جوهر التجربة المصرية، لا ترهل، ولا شعارات جوفاء مضللة. كفانا ضلالا ونحن فجر الضمير .