لا أدري شخصيا لماذا كانت القيم العليا للثورات والحركات الإنسانية العظمي دائما ثلاثا. وفي تاريخنا المصري كانت القيم العليا بعد ثورة 23 يوليو 1952 هي: الاتحاد والنظام والعمل; وبعد أن تم تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي الذي حل محل الاتحاد القومي والذي كان قد حل بدوره مكان هيئة التحرير صار الشعار ثلاثا أيضا: الحرية والاشتراكية والوحدة. وفي الخارج أيضا كان الأمر ثلاثا; وفي الثورة الفرنسية عرفت الأخوة والعدالة والمساواة; أما في سابقتها الثورة الأمريكية فقد كانت حقوق الإنسان التي لا يمكن المساس بها هي: الحياة والحرية والسعي نحو السعادة. ولذلك لم تكن الثورة المصرية خارج السياق الثوري التاريخي في ثلاثيتها الحرية والكرامة والعدالة. أصول هذه الثلاثيات يعود بها جماعة من الدارسين إلي الديانات الفرعونية القديمة, والآخرون يضعونها في إطار الديانة المسيحية; أما من غرقوا في الفلسفات والرياضيات فقد وجدوا مثلث الأشياء دائما معبرا عن حقيقتها, أما من اكتشف بعدا رابعا فقد كان يذهب إلي ما وراء الطبيعة. ولكن ما يهمنا علي أي حال- هو أن الشعار كان دائما ما يلخص أشياء كثيرة في كلمات ساطعة حاملة لقيم رفيعة قادرة علي الإلهام وجذب الإجماع بين جماعات مختلفة; وهو من ناحية أخري يعبر عن حاجة ماسة في التاريخ القريب المغرق في المعاناة من نوع أو آخر ولذلك اختلفت المكونات والترتيب من ثورة إلي أخري, وهو من ناحية ثالثة, وذلك هو الأكثر أهمية, يضع أولي علامات الاقتراب من شكل المستقبل المراد. وفي الواقع العملي فإنه لا يوجد اختلاف علي نبل الشعار, أو الحاجة لما فيه من إشارات لواقع من المعاناة, ولكن المعضلة دائما, والخلاف, يقع فورا عندما تبدأ عملية الترجمة إلي واقع سياسي ليس فقط لأن معاني الكلمات ومحتواها يصبح لها مقتربات مختلفة, وإنما لأن المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية تسفر عن نفسها فإذا الدهشة تأتي مصحوبة بالفزع علي ضياع البراءة والأيام الطيبة الأولي. انظر إلي مقال الدكتور مصطفي النجار الأول في الأهرام فلنتطهر.. من أجل الوطن الذي يأتي من أحد قادة ثورة يناير في طبعتها الشبابية الأولي حيث جري الاستثناء التاريخي للحظات البراءة والطهارة وبعدها تأتي الحقيقة المروعة للواقع السياسي حيث لا يوجد اختلاف سياسي وإنما تطاحن بلا معني وخطابات تخوين وإقصاء وممارسات لا تمت إلي الديمقراطية بشيء, وتوظف الدين لدي البعض ومتاجرة بدماء الشهداء من أطراف أخري, وصراعات شخصية تتم ترجمتها إلي خلافات سياسية... بعد ذلك لا يوجد سوى التطهر الثورى طوقا للنجاة من الصراعات التي تعقب الثورة (راجع الثورة الفرنسية والبلشفية) أو الفتنة الكبير منها والصغير التي جعلت أطهارا مبشرين بالجنة يقفون أطراف صراع تشهر فيه السيوف وتحسم فيها القضايا بالخداع أو علي أسنة الرماح. القصة ليست جديدة بالمرة بين وقت الثورة حيث البراءة والطهارة والتضحيات العظمي واحتضان الهلال والصليب والمرأة مواطنة وإنسانة وليست مصدرا للشر والفتنة والمجاعات الجنسية التي تمزق ملابسها بينما الكاميرات تصور وتسجل. وللأسف فإن الإنسان علي قدر ما اخترع وأبدع لم يفلح بعد في تقديم الاختراع الأعظم وهو تطهير الإنسان من الآثام وشرور النفس الإنسانية. بل إن الأخطر هو أن محاولات التطهر كثيرا ما قادت إلي شرور أعظم حينما خرج الخوارج- وكان هناك خوارج في كل الثورات تقريبا- سخطا علي من انحرفوا علي المبادئ أو جروا وراء المصالح. وفي وقت من الأوقات خرج تروتسكي علي الثورة البلشفية باحثا عن طهر جديد قاد الجماعات التروتسكية إلي احتضان الإرهاب; وكذلك كانت الحال مع جماعات التكفير والهجرة; بل إن بعضا من السلفيين الذين يعلقون صورة أسامة بن لادن قاتل المصريين والمسلمين وغيرهم من بني الإنسان علي عرباتهم وقلوبهم يسعون في كل لحظة إلي حالة نقية من التطهر الذي لا يوجد فيه ذنب أو معصية, أو هكذا يتصورون. ولكن الإنسان علي مدي التاريخ اخترع أدوات أخري للتعامل مع الواقع كما هو لا كما ظهر في لحظات استثنائية لا تعود مرة أخري إلا في صور جديدة لا علاقة لها بالحالة الاستثنائية الأولي والمرجح أن تكون إما ثورة عليها أو تراجعا عنها أو انحرافا بها. ونقطة البداية دائما كانت أن الكمال لله وحده, وما علي الإنسان إلا السعي في حياته الدنيا نحو أن يجعل إسهاماته في العمران والبناء والتغيير محققة لذاته وللرسالات العظمي التي تراكمت علي مدي التاريخ. هنا فإن الحرية والكرامة والعدالة توضع ضمن إطار التجربة التاريخية للإنسانية كلها والتي تسعي إلي تحقيق الأهداف والقيم ذاتها. وبصراحة تامة فإنه لم يعد مطروحا علي أحد في عالم اليوم أن يعيد اختراع العجلة من جديد لأنه تم اختراعها منذ زمن بعيد; ولم يحدث خلال هذا الطريق أن تم التغيير والسير نحو الأمام إلا من خلال وضع الظروف الموضوعية والمادية علي طريق التحول والتغيير; وتقييد نزعات الأنانية والإثم لدي الإنسان من خلال القانون والمؤسسات والمعرفة بالذات والوطن والكون. وهنا فإن التطهر لا يصير مسألة فردية يسعي لها الفرد أينما ومتي شاء, وإنما هي عملية مجتمعية تجري فيها عملية ترقية المواطن من خلال ارتقاء الوطن كله. كيف نفعل ذلك هي القضية; وهي وظيفة الثوار والمصلحين والساسة والمفكرين. وكان الرأي عندي وما رددته في مئات المقالات وما صدر من كتب ثمن الإصلاح ومصر دولة متقدمة ومصر دولة طبيعية والدين والدولة في مصر إن نقطة البداية هي أن تصبح مصر دولة طبيعية مثلها مثل بقية دول العالم الأخري, خاصة تلك الدول المائة والعشرين من بين مائة وتسعين دولة التي جعلتها التقارير الدولية ساعية مثلنا الآن لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة. وببساطة فإن ما يجعل مصر دولة طبيعية هو أن تتخلص من كل أشكال الخروج عن الطبيعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي مارستها خلال العقود الماضية ولا وجد لها مثيل في بلدان العالم الأخري. هذه نقطة أولية في مداولاتنا الجارية حول الدستور والنظام السياسي المقبل حيث إن التخلص مما هو استثنائي ضروري للدخول فيما هو طبيعي. وبصراحة فقد طال الزمن الذي كانت فيه مصر دائما تعمل تحت مظلة قانون الطوارئ والحالة الطارئة التي لا تعطي للسلطة السياسية بالضرورة سلطات استثنائية وإنما تجعل الخوف والأمن هما السمتين الأساسيتين للفرد والمجتمع ومن ثم لا يجتمعان مع الحرية أو الكرامة. وطال الزمن كثيرا علي تلك الحالة التي لم تتكرر في بلد آخر من بلدان العالم التي تعطي العمال والفلاحين نسبة النصف علي الأقل- من المجالس المنتخبة وهو أمر فيه مفسدة في وجوه عدة. فهو يخل من ناحية باعتبارات العدالة لأنها ليست فقط حالة تمييزية صارخة لا يوجد تبرير لها, فهم ليسوا الأغلبية بين السكان حيث يعملون في الجهاز البيروقراطي للدولة وقطاع الخدمات, وهم ليسوا أكثر من يقدم للناتج القومي الإجمالي, وهم ليسوا الجماعات الأكثر فقرا في المجتمع حيث يوجد من هم أكثر عوزا وحاجة. ودون وجود أسباب لتمييز العمال والفلاحين, فقد ثبت أن هذه النسبة لم تكن عونا علي إقامة نظام ديمقراطي متكامل من أي نوع, وهي لم تكن دافعا إلي تعظيم الحريات العامة وتصرف العمال والفلاحون في قضايا الوطن كما ذهب معظم المصريين دون زيادة أو نقصان. وبصراحة أيضا, فإنه لا يوجد نظام ديمقرطي في العالم يقوم علي مثل هذا التمييز لأنه يقلل من شأن العمال والفلاحين, وكذلك المرأة التي صارت لها حصة خاصة أحيانا, لأنهم يعطون حقوقا في العملية السياسية تخل بها وتجعلها مضطربة, وخالية من الكرامة التي تأتي من خلال الجهد والعرق في الميدان السياسي وليس من خلال المنح والعطاء التي أعطتها نظم جري التوافق علي أنها كان بينها وبين الديمقراطية مسافات هائلة. وطال الزمن أيضا الذي كان فيه "الحكم" يستبد بالعباد بأدوات شتى سوف نعود لكل منها بالتفصيل في مقالات لاحقة; ولكن ما يهمنا هنا ضرورة الخلاص من كل ما هو شاذ وغير طبيعي, ومن بينه أوضاع الصحافة "القومية" منذ تأميم الصحافة عام 1960 أو حتى بعد إعلان تبعيتها لمجلس الشوري. مثل هذا الوضع لا يوجد مثله في البلدان الديمقراطية التي تعيش الحرية وتحقق الكرامة وتسعي للعدالة لأن مهمة الدولة ليست التعبئة والحشد وراء من يحكم وإنما إدارة الموارد العامة بطريقة تسمح لها بالتقدم والازدهار. وإذا كان أمر الحكم في البلدان الديمقراطية يقوم علي تداول السلطة, فإنه لم يعد هناك معني لحشد أو تعبئة, وفي كل الأحوال فقد أثبتت التجربة مع التقدم التكنولوجي وتطور السوق الإعلامية أن الإعلام القومي المقروء والمسموع والمشاهد ليس هو الأكثر قراءة أو سماعا أو مشاهدة. وأخيرا وليس آخرا, فقد طال الزمن الذي لم تحقق فيه السلطة القضائية كامل استقلالها عن السلطة التنفيذية, ولم يوجد عبر الزمن أنواع مختلفة من القضاء الاستثنائي, بل كان هناك أيضا انتزاع ما جري العرف عليه في البلدان الديمقراطية علي أنه من صميم اختصاص السلطة القضائية خاصة فيما يتعلق باستقلال القضاء ونزاهته. إن القائمة الخاصة باستقلال القضاء والحفاظ علي سدنة العدالة موجودة ومتاحة, ولا يوجد تطهر يجري في مجتمع ما لم يبدأ بعودة القضاء المصري بشكل كامل إلي الحالة الطبيعية فى البلدان الديمقراطية. والأمثلة كثيرة لكى لا يصير التطهر حالة من اغتسال الأفراد للخلاص من الأوساخ والمعاصي, وإنما هو نظام يعود بالبلاد إلي حالتها الطاهرة الأولي. والحديث متصل. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد