مناضلون يساريون د. مصطفي هيگل «1» «أن تلقن الفلاحين فنون النضال الماركسي هذا أمر قد يبدو صعبا في البداية، لكن أن تخترق بهم قلعة الدكتور محمد حسين هيكل باشا قطب أقطاب حزب الأحرار الدستوريين «حزب كبار الملاك» فإن لهذا مذاقا خاصا وجميلا للغاية». د. مصطفي هيكل «في حواري معه - 1969 ببرلين» ولست أعرف كيف أبدأ؟ هل أبدأ بحواره المتحمس في فندق انتردين لندن ببرلين «الشرقية» أم بحنيني الدائم كي ألتقيه وبحثي الطويل عنه لأكمل معلوماتي عنه وعن تنظيمه المسمي «القلعة». وربما كانت البداية الأكثر جمالا هي حكايتي مع ثماره الأكثر إبهارا من فلاحي كفر غنام الشيوعيين، فعندما كنت لم أزل طفلا في الخامسة عشرة قبض علي وهناك حيث تجمعنا جميعا أمام محقق مرتبك لا يعرف معني كلمة شيوعية ولا لماذا يحاكم المتهمون بها؟ ولا كيف؟ فجمعنا جميعا «حوالي ثلاثين شخصا» أفندية ومدرسين وطلبة وفلاحين وعمالا وصاحب مكتبة وبائع كتب سريح وعسكري مطافئ وأطفالا وصار يحقق معنا واحدا واحدا أمام الجميع، هناك سمعت محاورات غاية في الإمتاع، كنت مرتجفا من الرعب ليس من السجن الذي لا أعرفه، وإنما من أبي الذي أعرفه، وكان الفلاحون الآتون من كفر غنام هم الأكثر ذكاء وقدرة علي إرباك الباشا وكيل النيابة عم عبدالله عبدالحفيظ «عضو مجلس المديرية»، يتحدث عن الباشا محمد حسين هيكل بافتخار فهو ابن قريتهم وقريبه لكنه لا يلبث أن يهاجم الإقطاع والظلم والبؤس الذي يعيشه الفلاحون ويلقن وكيل النيابة دروسا في الوطنية والعداء للاستعمار ويرتبك وكيل النيابة.. هل يحبس قريب الباشا أم يصغي لما يقوله من كلام يتدفق وطنية وعدلا، وهناك أحمد هرمز «طبال نقرزان - والنقرزان هو طبل معلق أعلي جمل يتقدم أي موكب وزفة أي عرس» وكان الطبال فصيحا وذا صوت مجلجل مثل النقرزان ويدافع عن حقه في قطعة أرض من تلك التي يزرعها لحساب الباشا وأمثاله ويقول إنه يكمل لقمة الأطفال بالعمل كطبال، أما المثير للدهشة فكان ذلك المرتدي جلبابا بلديا وصديريا أنيقا وبلغة ذات لون متألق وعندما نادي عليه وكيل النيابة فين أحمد هيكل تقدم مبتسما وصحح لوكيل النيابة أنا الأستاذ أحمد هيكل ويكتشف وكيل النيابة أنه مثقف مرموق وموظف كبير ورسام مبدع فيتلعثم، ذلك أنه أيضا ابن أخو الباشا هيكل، ويسود الارتباك الحضور من محقق وضباط، ويأمر وكيل النيابة بحبس الجميع، حتي يتخلص من الارتباك وذلك بعد أن اكتفي بسؤالهم، اسمك؟ سنك؟ مهنتك؟ عنوانك؟ ثم يحبسهم أربعة أيام علي ذمة التحقيق. وفي الحجز جلست القرفصاء لساعات طويلة وأنا أنصت لهؤلاء وهم يتحدثون عن الاستاذ مصطفي الذي كان المحقق يسأل كلا منهم، تعرف مصطفي هيكل؟ وتكون الإجابة ده ابن بلدنا، ويسأله المحقق: هل حدثك بهذه الأحاديث التي قلتها عن الفقراء والإقطاع؟ وتكون الإجابة: هي دي محتاجة حد يعلمهلنا؟.. وفي معتقل الهايكستب التقيت به لعدة أيام التقطني من بين الجميع، الشورت الذي يرتديه طفل والارتباك الذي يلفه، لفت نظره إلي وأجلسني ليشرح لي لماذا أنا معتقل؟ ولماذا يعتقلوننا؟ ولماذا يجب أن أثقف نفسي؟ وبعدها بأيام جري ترحيله مع دفعة كبيرة ممن حضروا معي من المنصورة إلي معتقل الطور، وتمضي سنوات لأقرأ له كتيبات عدة ثم يختفي. وعندما بدأت في دراسة تاريخ الحركة الشيوعية بحثت عنه كثيرا دون جدوي، وفي أول زياراتي لبرلين الشرقية لأحضر اجتماعا لحركة السلام العالمية كان علي سلم الطائرة ليستقبلني وبعدها تعددت اللقاءات وتعددت محاضر النقاش. ونبدأ معه «أبي شيخ أزهري كبير وكان عضوا في هيئة كبار العلماء، هو شيخ مستنير من مؤيدي الشيخ علي عبدالرازق ومنه تعلمنا الفهم المستنير للدين، ومفردات الحرية والديمقراطية والمساواة أنا وأخي الأكبر أحمد وأخي الأصغر عبدالفتاح «فتحي» عمنا هو الدكتور محمد حسين هيكل باشا، كنت أسكن في المنزل رقم 6 درب اللبانة أي المنزل الملاصق لبيت الفن، ولم أكن بحاجة إلي مقدرة خاصة لاقتحام بيت الفن، فأخي أحمد رسام موهوب وكان له مرسم هناك. وهناك عشت منبهرا بلوحات الفنانين السيرياليين، منصتا لحوارات لا تنقطع عن دورالفن كمعمل بارود يفجر الراكد في هذا المجتمع، وسمعت أشعارا ومساجلات، هل الفن للفن أم الفن للحياة؟ وعن الليبرالية والتروتسكية والعدمية، وفي المساء كان أخي أحمد يعيد شرح هذه المفردات، وتعرفت هناك علي كبار اهتموا اهتماما خاصا بهذا الفتي الصغير»، وصمت ثم قال «هل عرفت لماذا منحتك اهتماما خاصا عندما التقيتك في هايكستب لقد فعلت ما فعل بي هؤلاء الكبار» ويمضي «التقيت وتناقشت في تردد مع كامل التلمساني وفؤاد كامل وأنور كامل وعصام الدين حفني ناصف الذي كان يناقش التروتسكية بقرف واضح وبعدها أخذني إلي عيادة د. عبدالفتاح القاضي وتحدثا معي عن الاحتلال والفاشية والقصر الملكي ومعاهدة 1936، وبدأوا في فتح آفاق الماركسية أمامي، ولم أكن أكتفي بالاستماع، فكل ما أسمعه أعيده علي أصدقائي، وفي عام 1939 بدأنا نلتقي كمجموعة من طلاب الثانوي، الأغنياء بالبيجامات والفقراء بالجلاليب عصر كل يوم في تلك الزاوية التي تفصل بين مسجدي الرفاعي والسلطان حسن، كان أغلبنا من طلاب الخديوية الثانوية وبنباقادن الثانوية». وفي كل عصر تدور حوارات صاخبة لكن الفتي مصطفي كان يمتع الجميع بفهم جديد يستقيه من لقاءاته مع رواد بيت الفن ومن أبيه ومن أخيه أحمد، ومن كتب أمده بها عصام الدين ناصف ود. عبدالفتاح القاضي، ويمكن القول إنه كان المتحدث الأساسي أو بالدقة المحاضر الدائم، وتتسع المجموعة لتضم طلابا مثل فتحي هيكل وعبدالعزيز بيومي وعبدالفتاح يونس «طالب أزهري - ابن شيخ التكية التركستانية وكانت بؤرة شديدة العداء للاتحاد السوفيتي» ومحمد البخاري «طالب أزهري وأصله من اندونيسيا» وعاملين أحدهما من الترسانة اسمه عبدالعزيز والآخر في المطبعة الأميرية اسمه رمضان، وعلي أي حال يؤكد مصطفي هيكل: كنا ثمانية، نتحاور كل يوم حتي أصبحنا مجموعة متقاربة في الفكر والرأي. ولم تزل الحكاية في بدايتها، فلنواصل.