برلنتي عبدالحميد.. البقاء لله! تقول برلنتي عبدالحميد.. إنه كان يشرح لها الماركسية.. فحرك قلبها بالمزيد من حبه.. وكان يكلفها بتوزيع المنشورات فلا تقول له «لا».. وجاء لخطبتها فقال له والدها «لا»! في صيف سنة 1989.. كانت المظاهرات قد اجتاحت ألمانياالشرقية.. تطالب بالديمقراطية والحرية وإسقاط زعيم البلاد وعقلها المفكر ايريك هونيكة الذي تمدد علي سرير السلطة لما يقرب من 18 سنة. كان شعب ألمانياالشرقية قد ضاق ذرعا.. من استمرار إدارة شئون بلاده.. بحزب واحد.. ورجل واحد.. لا يتغير ولا يتبدل.. وأن تدار سياسة الدولة بعقلية الولاء وعبادة الفرد.. وسيطرة «الشللية» علي كل كبيرة وصغيرة في البلاد. لم يكن شعب ألمانياالشرقية.. يرفض شخص الزعيم إيريك هونيكة علي وجه التحديد.. ولكنه كان يحلم بالتغيير والتجديد وإتاحة الفرصة أمام أجيال جديدة تواكب العصر.. وتصحح المسارات وأن تحكم البلاد علي النحو الذي تدار به الدول التي حققت تقدما في مستويات المعيشة والتعليم والبحث العلمي.. وأن تتاح له فرصة اختيار حكامه علي النمط الذي ساد العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. وسقوط ثقافة الرئيس الفيلسوف. كان الشعب يطالب بالتغيير. كان الشعب قد ضاق ذرعا.. بصور الساسة الذين تحتل صورهم الصفحات الأولي من الصحف.. لمدة تزيد علي 18 سنة. كانت الانتخابات العامة في ألمانياالشرقية تجري في مواعيدها.. بين أكثر من عشرة أحزاب.. مثل «حزب الفلاحين الديمقراطي» الذي أسسه النظام الحاكم في 29 أبريل سنة 1948 وكان يشارك في الانتخابات منذ سنة 1949، ومثل حزب العمال الاشتراكي وحزب العدالة.. والحزب الشيوعي الذي كان يحمل اسم «زهرة القرنفل» إلخ.. ولكن كانت الانتخابات تسفر في كل مرة عن فوز «حزب الوحدة الديمقراطي» الذي يرأسه زعيم البلاد.. الذي يشغل في نفس الوقت منصب رئيس الدولة.. ورئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة. كان كل زعماء ألمانياالشرقية يشغلون المناصب الثلاثة.. علي الرغم من أنهم.. لم يكونوا من العسكريين.. وكانوا جميعا من الطاعنين في السن الذين صنعوا لأنفسهم بطولات وهمية في مقاومة الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان الحزب الكبير الذي يرأسه زعيم الدولة.. هو الحزب الأقوي الذي لا يضارعه حزب آخر في البلاد وهو الذي يتمتع بالسلطة المطلقة.. ويتمتع رجاله بالحصانة ويتولون الوظائف العليا.. ولا تسفر الانتخابات عن تغيير أي منهم. رجال الحزب لهم مكانتهم.. ونفوذهم وسلطانهم.. وتتقارب أعمارهم وأفكارهم.. وفقا للعصر الذي عاشوه في شبابهم. بل كانت الأعراض المرضية التي يعانون منها متشابهة أيضا. واندلعت المظاهرات.. وسرت في العديد منها.. كصحفي مصري وحيد.. في تلك الأيام.. وشهدت المظاهرة الكبري التي اتجهت نحو صحيفة «الشعب» الموالية للحزب الحاكم.. وشهدت اقتحام عدد من المتظاهرين للصحيفة.. وإلقاء كبار المنافقين فيها من النوافذ. كانت المظاهرة حقاَ أمام الصحيفة تردد هتاف «إحنا الشعب» ثم فوجئت بمجموعة كبيرة من الشبان تقتحم المبني.. وشاهدت كبار المنافقين يسقطون من النوافذ. في هذه الأيام كنت في زيارة قصيرة للقاهرة.. ودعاني الصحفي الراحل مصطفي أمين للعشاء بنادي السيارات في قلب القاهرة. حول مائدة العشاء بالنادي العريق كنا أربعة.. مصطفي بك وحرمه السيدة زيزي طنطاوي والزميل الصديق الأستاذ أحمد رجب.. وأنا. وكان من الطبيعي.. أن أروي الحكايات حول ما يجري في ألمانياالشرقية.. ورويت ما شاهدته من اقتحام صحيفة «الشعب».. وضرب المنافقين في الشوارع.. وآخر حديث لي مع إيريك هونيكة.. وكان بمناسبة مرور 40 سنة علي قيام دولة ألمانياالشرقية إلخ. وفجأة وجدت الأستاذ مصطفي أمين يسألني: - أين الحزب الحاكم.. وهل لا توجد مظاهرات تؤيد الحزب الحاكم.. والحكومة الحالية.. ألا توجد معارضة شعبية من جانب أنصار النظام القديم؟ قلت: - يا مصطفي بك.. الشعب الألماني كله يؤيد إسقاط النظام القديم.. ولم أسمع مواطنا يقف إلي جانب إبقاء الحال علي ما هو عليه.. سوي شخص واحد من أصل مصري! لمعت عينا مصطفي أمين بالدهشة.. ورفع حاجبيه وسألني: تعرفه؟! قلت له نعم.. لقد تعرفت به في مكتب قنصلنا في برلين المستشار رءوف رجب «السفير الآن» ورافقني خلال بعض الجولات في برلين.. ولم يكن يتوقف عن الكلام. عاد مصطفي بك يسأل: - رأيه إيه؟ قلت له إنه يري أن تلك مؤامرة إمبريالية تقوم بها الولاياتالمتحدة لتصفية أوروبا الشرقية.. إلخ. سألني مصطفي بك عن اسم هذا المصري الفريد.. فقلت له: - اسمه مصطفي هيكل.. وهو شيوعي سابق.. ومتزوج من سيدة ألمانية.. علمت منه أنها توفيت حديثا.. وأنه تم إبعاده عن مصر في ظروف لم أسأله عنها.. ولكن يبدو أنها بسبب نشاطه في المنظمات الشيوعية. لاذ مصطفي بالصمت قليلا ثم ألقي بالقنبلة.. قال: - إنه زوج برلنتي عبدالحميد!! كنت قد تعرفت بالفنانة برلنتي عبدالحميد سنة 1955 من خلال فيلم «رنة الخلخال».. عن قصة للأديب أمين يوسف غراب وإخراج محمود ذوالفقار.. وشاركها البطولة شكري سرحان.. وعبدالوارث عسر «الذي كان يحمل اسم الحاج عامر» والذي كان يملك طابونة للخبز.. وله ابن هو شكري سرحان الذي تزوج «في الفيلم» مريم فخرالدين ابنة الشيخ هاشم.. ووقع في حب زوجة أبيه برلنتي عبدالحميد. كانت برلنتي عبدالحميد في هذا الفيلم في قمة الإغراء وكان زوجها الحاج عامر في قمة الورع.. والتقوي. أذكر أنه في بداية الفيلم.. عندما تحركت الكاميرا.. بمنتهي البطء من الخلخال في قدميها.. وصعدت بمنتهي البطء إلي كل جزء في الجسد الذي يصرخ بالأنوثة الطاغية. من الساق.. إلي الردفين.. والوسط.. والصدر.. والرقبة.. إلي أن وصل بنا المخرج في نهاية المطاف إلي الوجه بعد أن استعرض كل مواطن الجمال التي كادت تحبس الأنفاس في صدور المشاهدين.. وكانت الغالبية منهم من طلبة الجامعات الذين هجروا المحاضرات وجاءوا يشاهدون الفيلم في الحفلة الصباحية.. بسينما ديانا. كانت ذكرياتي عن برلنتي عبدالحميد قد توقفت عند أنوثتها الطاغية والجمال المتوحش في فيلم «رنة الخلخال».. وزواجها من الرجل العجوز الحاج عامر الذي أراد أن يسترها من الذئاب فتزوجها من باب حمايتها من الطامعين في أنوثتها.. وتقربا إلي الله سبحانه وتعالي. كانت للحاج عامر.. نوايا طيبة يظهرها من باب ما نطلق عليه هذه الأيام «سياسة الخصخصة» ونقل ملكية القطاع العام إلي القطاع الخاص! المثير في الموضوع أن هذه السياسة أثبتت فشلها في فيلم «رنة الخلخال» سنة 1955 قبل أن تثبت فشلها في تسعينيات القرن الماضي.. وحتي كتابة هذه السطور عن برلنتي عبدالحميد التي انتقلت إلي رحمة الله منذ أيام. فشلت سياسة الخصخصة في فيلم «رنة الخلخال» بزواج الحاج عامر من برلنتي عبدالحميد «لواحظ» التي أسقطت شكري سرحان «حسن» في شراكها.. كما فشلت في شركات القطاع العام بعد الخصخصة. ويبدو الفشل في أروع صوره عندما استدرجت لواحظ الشاب حسن ابن الشيخ عامر في حجرتها كي تشكو له والده الذي يضربها علي جسدها.. وهي تكشف له مواقع الضرب. كانت تبكي.. وهي تشير لمواقع الضرب.. من كتفيها، وحتي ساقيها.. مما يعكس الفساد الذي نهش جسد الملكية العامة للدولة من جراء سياسة الخصخصة. أعود إلي مصطفي هيكل.. فأقول.. إن الدكتور رفعت السعيد كتب في «الأهالي» في 22 سبتمبر 2010 عن مصطفي هيكل.. وعن حوار أجراه معه سنة 1971.. ففسر لي سر رفض مصطفي هيكل.. ومعاداته للوحدة الألمانية.. وتمسكه بالنظام الذي كان يقوم في جوهره علي النظرية الماركسية.. وعلي دولة الحزب الواحد.. ووجود برلمانات بلا معارضة. يقول رفعت السعيد: إن مصطفي هيكل قرأ كتاب كارل ماركس «رأس المال» ووجده في غاية الصعوبة ويصعب علي عامة الناس فهمه.. فأراد تبسيط كتاب ماركس وقام بتلخيصه في كتاب «خلاصة رأس المال» الذي أصدره سنة 1947، إلا أنه وجده.. بعد التبسيط والشرح.. أكثر تعقيدا من كتاب ماركس. ويقول رفعت السعيد: إن مصطفي هيكل.. قام بتشكيل أول مجموعة شيوعية في المنطقة الواقعة بين مسجدي الرفاعي والسلطان حسن.. حيث يقع مقر المركز العام للإخوان المسلمين.. وأراد أن يجري حوارا سياسيا مع هذه الجماعة لتقريب الأفكار فالتقي حسن البنا سنة 1942. وفي أثناء الحوار كان مصطفي هيكل يتحدث بصوت مرتفع وكان صوته يعلو علي الجميع.. مما أثار حسن البنا الذي اعتاد من محدثيه الاستماع فقط لما يقوله فضيلة المرشد.. وغضب حسن البنا.. وأصدر تعليماته بمنعه من دخول المركز العام.. مما دفع هيكل للعودة لمجموعته. ويقول رفعت السعيد إن مصطفي هيكل أصدر سنة 1947 بالاشتراك مع صديقه عبدالرحمن بصيلة كتابا بعنوان «لماذا أيدنا الاتحاد السوفيتي» وأنه تعرف بالضابط أحمد حمروش بالنادي الشرقي «حيث المقر الرئيسي لحزب التجمع الآن». الغريب في الموضوع أنه علي الرغم من لقاءاتي المتعددة مع مصطفي هيكل في شرق برلين.. بعد لقائي به لأول مرة بمكتب المستشار رءوف رجب بالسفارة المصرية في برلين.. فإنه لم يتناول هذا التاريخ.. بما فيه علاقته بالفنانة القديرة برلنتي عبدالحميد.. علي الإطلاق.. لانشغاله الجارف برفضه للوحدة الألمانية.. وتأكيده علي أن أمريكا.. وراء كل ما يجري من أحداث. ويبقي سؤال.. قبل أن تنفد المساحة المخصصة لهذه السطور: هل كانت ثمة علاقة بين خروج مصطفي هيكل من مصر.. خروج السهم من القوس.. وزواج المشير عبد الحكيم عامر من برلنتي عبدالحميد التي تنتمي لعائلة حواس؟ تقول برلنتي عبدالحميد إنها كانت ضعيفة في اللغة العربية وتطوع أحد أقاربها بأن يحضر لها مدرسا يتولي هذه المهمة.. وكان هذا الرجل هو مصطفي هيكل.. الذي ينتمي لعائلات الباشوات وعمه هو محمد حسين هيكل باشا. وعندما جاء موعد الدرس.. فتحت له الباب وهي حافية القدمين.. مبللة الوجه بالعرق.. وقادمة لحجرة الجلوس.. وأحبته! وتقول برلنتي.. إنه كان يشرح لها الماركسية فحرك قلبها بالمزيد من حبه.. وكان يكلفها بتوزيع المنشورات السرية.. فلا تقول له لا.. وجاء لخطبتها.. فقال له والدها «لا». وتقول برلنتي عبدالحميد: إن هيكل أدخلها النضال كي يدخرها للزواج.. وصارحني بذلك واتفقنا عليه.. أي علي الزواج. هل تزوجت برلنتي عبدالحميد.. من مصطفي هيكل في السر؟ لا أحد يدري.. لا هو قال لي ونحن في برلين.. ولا هي قالت في كتابه «المشير.. وأنا». الله أعلم! الله يرحمك يا برلنتي.. لقد كنت ضحية لأنوثتك الطاغية!