حين قرأت للمرة الأولي “مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون”، كتاب الدكتور أنور عبد الملك الشهير، الذي أعادت دار المحروسة بالقاهرة نشره منذ فترة قليلة. وجدت نفسي أمام حدقة أخري لرؤية العالم والحياة بأحداثها المختلفة، حدقة تري وتعيد تفسير ما يجري أمامنا وفقا لأدوات قياس مغايرة، لعلَها حتي ذلك العام العاصف (1970) لم تكن قد ترسَخت بعد، لتصبح مدرسة معترفا بها في البحث والتحليل والنقد. في ذلك الكتاب، الذي راج عند صدوره خارج مصر (نشرته دار الطليعة اللبنانية عام 1964)، قدم المفكر المصري الراحل قراءة شاملة لثورة 1952 المصرية من أبواب رؤية جديدة، غير تلك التي راجت وشغلت الناس بين مؤيدين ومعارضين لثورة الضباط الأحرار المصريين، ومن بعد لزعامة وسياسة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. القراءات التي تناولت عصر عبد الناصر مؤيدة ومعارضة جرت كلُها في حقل السياسة المباشرة وما قد يرتبط بها من إجراءات وأحداث ومواقف. فيما اختار عبد الملك أن يري الثورة، أو لنكن أكثر دقة وأن نستخدم تعبيراته هو، فنقول أن يري “المجتمع الجديد” من خلال رؤية صورته كما تبنيها يد الإقتصاد، كقوانين سنّتها الثورة وأيضا كمؤسسات أقامتها. هي قراءة تناولت “المجتمع الجديد” حقا، ولكنها ذهبت من أجل ذلك إلي استباق حركة الضباط الأحرار بسنوات طويلة فراحت تتبع حضور الرأسمالية الوطنية المصرية ورمزها الأبرز طلعت حرب، وعموم النشاطات الطليعية التي حققها وقام بها في الحقلين الإقتصادي والمالي بغاية كبري هي بناء قاعدة إقتصادية وطنية مستقلة عن “الحماية البريطانية” من جهة وعن القصر الملكي من جهة أخري. هو نشاط تعود بداياته إلي سنوات العشرينيات من القرن الفائت، أي تماما إلي زمن الرؤي الكبري والفتوحات الفكرية ذات الطابع الليبرالي، والتي انداحت بتأثير مباشر أو غير مباشر من ثورة 1919 المصرية بقيادة سعد زغلول باشا، وأعطت للحياة السياسية المصرية زخمها الكبير المعروف، وكانت أبرز ثمراتها دستور 1923 الليبرالي. علي أن هذا ليس كافيا في نظري لتبيان الأهمية الكبري لكتاب أنور عبد الملك ذاك، فالقراءات الإقتصادية والمادية عموما لم تكن غائبة عن الحياة المصرية تماما قبله. لكن الجديد هنا أنها المرَة الأولي، فيما أتذكر، التي يتصدَي فيها باحث لقراءة “صورة المجتمع” الذي تقوم بتشييده الثورة المصرية. هل أراد الراحل عبد الملك أن يقول كلمته الشاملة في الثورة ومجتمعها مرة واحدة وشاملة؟ ربما كان ذلك أحد أهدافه، علي أنني لا أميل لاعتباره الهدف الأهم، فالعودة بعد ذلك لقراءة الكتاب بصورة متأنية و”محايدة” ترينا أنه كتاب بحثي ينهض علي الحقائق المادية ليستنطقها تحليلا سياسيا، وليس الإتكاء علي مقولات سياسية أو حتي أيديولوجية نظرية الطابع. ربما لهذا السبب أكثر من غيره منع الكتاب من الطباعة والنشر في بلد المؤلف، خصوصاً وأنه يتناول مرحلة سياسية كانت لا تزال حتي ذلك الوقت في أوجها علي الصعيد السياسي حيث مثلت قيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصرة ذروة المواجهة العربية مع السياسات الغربية ومع الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين. بهذا المعني لم يكن “مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون” كتابا “جماهيرياً” بالمعني الواسع للكلمة والذي عرفناه مع الكتب السياسية التي راجت وانتشرت في تلك المراحل، وظلَ إلي حد كبير كتاب النخبة الثقافية والسياسية الباحثة بدورها عن أسئلة مغايرة للأسئلة الرائجة، في طموح للحصول علي إجابات مغايرة بالضرورة. أعادني رحيل المفكر الكبير أنور عبد الملك قبل أيام للوقوف أمام بعض من تلك الحقائق لعلَ أهمَها فكرة البحث في الشأنين الإقتصادي والسياسي بعصب بارد، وأعني هنا رؤية الواقع من خلال حقائقه المادية بمعزل عن عواطفنا الفردية أو الجمعية. كان ذلك عسيرا في البدايات الأولي بالطبع، وكثيرا ما جري الخلط إزاءه بين مفهومين وتعبيرين هما “الحيادية” و”الموضوعية” وهو خلط ما زال حاضرا إلي يومنا هذا وإن كان بدرجة أقل. لم يكن مطلوبا من البحث الموضوعي أن يكون محايداً، بالمعني الذي يحرم الباحث من التعبير عن مواقفه (وحتي انحيازاته) مما يتناوله في بحثه، بل كان المطلوب ولا يزال الحياد أمام المعلومة الحقيقية، التي يتوجب أن يعترف بها أولا، حتي وإن جاءت صادمة متعاكسة مع قناعاته وأهوائه السياسية. بهذا المعني بالذات، أعتقد أن الراحل أنور عبد الملك نجح في تأسيس منهج بحثي نقدي، يقوم علي الموضوعية ولا يصادم الحقيقة في محاولة زجرها ونفيها، وهو فعل ذلك تماما حين راح يقرأ الحدث الواقعي كما جري في الحياة ويربطه بعوامله وبالذات الإقتصادية منها. العام ذاته الذي تعرفت فيه علي كتاب أنور عبد الملك “مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون” هو الذي شاهدت فيه فيلم الراحل يوسف شاهين الشهير أيضا “الأرض”، والذي تناول جانبا من صراع الفلاحين المصريين من أجل البقاء ومن أجل الحفاظ علي أراضيهم الزراعية في مواجهة قوانين السلطة آنذاك. الفيلم حققه شاهين كما هو معروف عن رواية شهيرة في الأدب المصري حملت العنوان ذاته للكاتب الراحل عبد الرحمن الشرقاوي، وشكلت علي مدي عقود جزءا من ذاكرة المثقفين المصريين والعرب وبالذات اليساريين منهم. ربما تذكرت “الأرض”، فيلما ورواية في مقام الحديث عن الراحل عبد الملك وكتابه بسبب من اجتماع الكتاب والرواية والفيلم علي فكرة بالغة الأهمية: رؤية السياسة وأحداثها و”منطقها” خارج المفردات السياسية المباشرة، التي كثيرا ما تخدع، أو علي الأقل تظلُ قاصرة عن الإحاطة بالأسباب الكامنة أو غير المباشرة، التي تجعل هذا الحدث السياسي ممكن الوقوع فعلا، وتجعله بعد ذلك قابلا للتفسير وفق منطق متكامل ومنسجم. في ذلك العام، وقبل شهور قليلة من رحيل جمال عبد الناصر، كانت “الأرض” التي يتحدث عنها الفيلم هي أرض الفلاحين المهددة بالمصادرة من الدولة وكانت أذهان المشاهدين تذهب إلي الأرض الأخري تلك التي كانت محتلة في سيناء قبل ذلك بسنوات ثلاث فقط، فيما كانت حرب الإستنزاف مشتعلة علي طول قناة السويس.هي العلاقة المصيرية بين البشر ومصائرهم الفردية في اقتصادهم وأيامهم وبين السياسة بمعناها العام وعناوينها الكبري والعريضة، والتي كانت في مطلع السبعينات مفتوحة علي أسئلة الحرب والفساد الداخلي في أعقاب هزيمة الخامس من حزيران 1967. أنور عبد الملك أحد أبرز مثقفي مرحلة النهضة، أولئك الذين أسسوا وعيهم وثقافتهم علي مرتكزين أساسيين التعليم الأكاديمي العالي والعميق، ثم الثقافة الفردية التي ذهبت في اتجاهات عديدة من الفلسفة الي الإقتصاد والأدب، وكان وعيهم يمضي عميقا في اتجاه التحرُر بمعاني متعدّدة، تشمل التحرُر من الهيمنة الأجنبية لتصل إلي التحرُر من عوامل الإحباط الداخلية بما في ذلك حلَ المعضلات الكبري، وعلي رأسها قضايا الفلاحين والخروج من حالة التخلف. هؤلاء المثقفين وجدوا أنفسهم ووعيهم وفكرهم في حالة صدام مباشر مع كل تلك الإحباطات. وكان سعيهم يتجه نحو التنوير بمعناه الشامل، الذي يؤسس حقا لنهضة صناعية وتعليمية، ويسعي لتحديث الزراعة ورفع شأن المرأة ومنحها حقوقها السياسية والإجتماعية كاملة. بكل هذه المعاني وغيرها، نري، اليوم غياب أنور عبد الملك بعيداً عن وطنه (في باريس)، هو الذي عاش في مصر ومن أجلها ومن أجل ناسها البسطاء الذين كتب عنهم ومن أجلهم.