التعليم تزف بشرى سارة ل "معلمي الحصة"    نقيب الفلاحين: الطماطم ب 50جنيها.. واللي يشتريها ب "أكثر من كدا غلطان"    شراكة استراتيجية مع «الصحة العالمية» لتعزيز نظام الرقابة على الأدوية في مصر    الجبهة الفلسطينية تعلن استشهاد 3 من عناصرها في الغارة الإسرائيلية على منطقة الكولا ببيروت    صفارات الإنذار تدوي في راموت نفتالي شمال إسرائيل    4 شهداء و49 مصابا في الغارات الإسرائيلية على الحديدة اليمنية    اشتباكات كثيفة بالمدفعية وغارات جوية على طول خطوط الجبهة في شرقى أوكرانيا    ملف يلا كورة.. إصابة هاني.. تصريحات لبيب.. وتألق مرموش    بيان رسمي من حسين لبيب بعد تتويج الزمالك بالسوبر الإفريقي    10"بعد إصابته في الركبة".. 10 صور تاريخيه محمد هاني مع النادي الأهلي    محمد أسامة: جوميز من أفضل المدربين الذين مروا على الزمالك.. والونش سيعود قريبًا    موعد مباريات اليوم الإثنين 30 سبتمبر 2024.. إنفوجراف    شديد الحرارة على هذه المناطق.. حالة الطقس المتوقعة اليوم الاثنين    إصابه 4 أشخاص إثر اصطدام دراجتين ناريتين في المنوفية    العثور على جثة حارس مهشم الرأس في أرض زراعية بالبحيرة    أحلام هاني فرحات بين القاهرة ولندن    10 تغييرات في نمط الحياة لتجعل قلبك أقوى    5 علامات للتعرف على نقص الفيتامينات والمعادن في الجسم    مستقبل وطن البحيرة يطلق مبادرة للقضاء على قوائم الانتظار    هل 200 جنيه للفرد شهريا «مبلغ عادل» للدعم النقدي؟.. أستاذ اقتصاد يجيب (فيديو)    صالون التنسيقية يفتح نقاشا موسعا حول ملف التحول إلى الدعم النقدي    صناع السياسة في الصين يتعهدون بدراسة تدابير اقتصادية تدريجية    الصين تتجه لخفض أسعار الرهن العقاري لإنعاش سوق الإسكان    انطلاق أولى ندوات صالون المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي    دونجا يوجه رسالة نارية ل إمام عاشور: «خليك جامد احنا مش ممثلين» (فيديو)    طبيب الزمالك يكشف آخر تطورات علاج أحمد حمدي    من خلال برنامج القائد| 300 ألف يورو لاستكمال المركز الثقافي بالقسطنطينية    أجواء حماسية طلابية في الأنشطة المتنوعة باليوم الثاني لمهرجان استقبال الطلاب - (صور)    سعر استمارة الرقم القومي يصل ل 800 جنيه.. إجراءات جديدة لاستخراج البطاقة في دقائق    المقاومة العراقية تحذر من إستخدام العراق منطلقا لعمليات التحالف الدولي ضد سوريا    مفاجآت سارة ل3 أبراج خلال الأسبوع المقبل.. هل أنت منهم؟    المفتي: الإلحاد نشأ من أفهام مغلوطة نتيجة خوض العقل في غير ميدانه    «الإفتاء» توضح حكم تناول مأكولات أو مشروبات بعد الوضوء.. هل يبطلها؟ (فيديو)    لبنان: استشهاد 45 شخصا وإصابة العشرات في أحدث الهجمات الإسرائيلية    السعودية تعرب عن قلقها البالغ إزاء الأوضاع الأمنية في لبنان    بايدن: سنواصل الوقوف إلى جانب أوكرانيا    مكون في مطبخك يقوي المناعة ضد البرد.. واظبي عليه في الشتاء    جامعة المنيا تقرر عزل عضو هيئة تدريس لإخلاله بالواجبات الوظيفية    مقتل 3 أشخاص من عائلة واحدة في مشاجرة على ري أرض بأسيوط    الفرح بقى جنازة، مصرع شاب وإصابة آخر في حادث تصادم جنوب الأقصر    نابولي يفوز على مونزا 0/2 ويتصدر الدوري الإيطالي مؤقتا    محافظ جنوب سيناء: 15% زيادة متوقعة بحجم الإقبال السياحي في أكتوبر ونوفمبر المقبلين    الأنبا باسيليوس يترأس قداس المناولة الاحتفالية بكاتدرائية يسوع الملك    د.حماد عبدالله يكتب: فى سبيلنا للتنمية المستدامة فى مصر !!    زوج أمام محكمة الأسرة: «كوافير مراتي سبب خراب البيت» (تفاصيل)    نسرين طافش أنيقة وفيفي عبده بملابس شعبية.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حدث بالفن| اعتذار شيرين لشقيقها وموعد عزاء زوجة فنان وانطلاق مهرجان الجونة السينمائي    تامر عبدالمنعم بعد رئاسة "الفنون الشعبية": طالما لدي شباك تذاكر فالمسرح يهدف للربح    رسميا بعد الارتفاع.. سعر الدولار أمام الجنيه اليوم الإثنين 30 سبتمبر 2024 (تحديث الآن)    السفيرة الأمريكية لدى مصر تشارك في فعاليات برنامج "هى الفنون" بالقاهرة    "الحماية المدنية" تسيطر على حريق هائل في سيارة تريلا محملة بالتبن بإسنا جنوب الأقصر    جثة أسفل عقار مواجهة لسوبر ماركت شهير بالهرم    سقوط غامض لفتاة يثير لغزًا في أكتوبر    عميد معهد القلب يكشف تفاصيل إنقاذ حياة شاب بعملية الأولى من نوعها    هل يجوز أن أترك عملي لأتابع مباراة أحبها؟.. رد صادم من أمين الفتوى لعشاق كرة القدم (فيديو)    إبراهيم رضا: الزوج الذي لا يعول أولاده خان علاقته بالله.. فيديو    مفاجأة حول المتسبب في واقعة سحر مؤمن زكريا.. عالم أزهري يوضح    الموت يفجع الشيخ أحمد عمر هاشم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



راسم المدهون يكتب.. مصر مجتمع يبنيه العسگريون
نشر في الأهالي يوم 17 - 07 - 2012

حين قرأت للمرة الأولي “مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون”، كتاب الدكتور أنور عبد الملك الشهير، الذي أعادت دار المحروسة بالقاهرة نشره منذ فترة قليلة. وجدت نفسي أمام حدقة أخري لرؤية العالم والحياة بأحداثها المختلفة، حدقة تري وتعيد تفسير ما يجري أمامنا وفقا لأدوات قياس مغايرة، لعلَها حتي ذلك العام العاصف (1970) لم تكن قد ترسَخت بعد، لتصبح مدرسة معترفا بها في البحث والتحليل والنقد.
في ذلك الكتاب، الذي راج عند صدوره خارج مصر (نشرته دار الطليعة اللبنانية عام 1964)، قدم المفكر المصري الراحل قراءة شاملة لثورة 1952 المصرية من أبواب رؤية جديدة، غير تلك التي راجت وشغلت الناس بين مؤيدين ومعارضين لثورة الضباط الأحرار المصريين، ومن بعد لزعامة وسياسة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. القراءات التي تناولت عصر عبد الناصر مؤيدة ومعارضة جرت كلُها في حقل السياسة المباشرة وما قد يرتبط بها من إجراءات وأحداث ومواقف. فيما اختار عبد الملك أن يري الثورة، أو لنكن أكثر دقة وأن نستخدم تعبيراته هو، فنقول أن يري “المجتمع الجديد” من خلال رؤية صورته كما تبنيها يد الإقتصاد، كقوانين سنّتها الثورة وأيضا كمؤسسات أقامتها. هي قراءة تناولت “المجتمع الجديد” حقا، ولكنها ذهبت من أجل ذلك إلي استباق حركة الضباط الأحرار بسنوات طويلة فراحت تتبع حضور الرأسمالية الوطنية المصرية ورمزها الأبرز طلعت حرب، وعموم النشاطات الطليعية التي حققها وقام بها في الحقلين الإقتصادي والمالي بغاية كبري هي بناء قاعدة إقتصادية وطنية مستقلة عن “الحماية البريطانية” من جهة وعن القصر الملكي من جهة أخري. هو نشاط تعود بداياته إلي سنوات العشرينيات من القرن الفائت، أي تماما إلي زمن الرؤي الكبري والفتوحات الفكرية ذات الطابع الليبرالي، والتي انداحت بتأثير مباشر أو غير مباشر من ثورة 1919 المصرية بقيادة سعد زغلول باشا، وأعطت للحياة السياسية المصرية زخمها الكبير المعروف، وكانت أبرز ثمراتها دستور 1923 الليبرالي.
علي أن هذا ليس كافيا في نظري لتبيان الأهمية الكبري لكتاب أنور عبد الملك ذاك، فالقراءات الإقتصادية والمادية عموما لم تكن غائبة عن الحياة المصرية تماما قبله. لكن الجديد هنا أنها المرَة الأولي، فيما أتذكر، التي يتصدَي فيها باحث لقراءة “صورة المجتمع” الذي تقوم بتشييده الثورة المصرية. هل أراد الراحل عبد الملك أن يقول كلمته الشاملة في الثورة ومجتمعها مرة واحدة وشاملة؟
ربما كان ذلك أحد أهدافه، علي أنني لا أميل لاعتباره الهدف الأهم، فالعودة بعد ذلك لقراءة الكتاب بصورة متأنية و”محايدة” ترينا أنه كتاب بحثي ينهض علي الحقائق المادية ليستنطقها تحليلا سياسيا، وليس الإتكاء علي مقولات سياسية أو حتي أيديولوجية نظرية الطابع. ربما لهذا السبب أكثر من غيره منع الكتاب من الطباعة والنشر في بلد المؤلف، خصوصاً وأنه يتناول مرحلة سياسية كانت لا تزال حتي ذلك الوقت في أوجها علي الصعيد السياسي حيث مثلت قيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصرة ذروة المواجهة العربية مع السياسات الغربية ومع الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
بهذا المعني لم يكن “مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون” كتابا “جماهيرياً” بالمعني الواسع للكلمة والذي عرفناه مع الكتب السياسية التي راجت وانتشرت في تلك المراحل، وظلَ إلي حد كبير كتاب النخبة الثقافية والسياسية الباحثة بدورها عن أسئلة مغايرة للأسئلة الرائجة، في طموح للحصول علي إجابات مغايرة بالضرورة.
أعادني رحيل المفكر الكبير أنور عبد الملك قبل أيام للوقوف أمام بعض من تلك الحقائق لعلَ أهمَها فكرة البحث في الشأنين الإقتصادي والسياسي بعصب بارد، وأعني هنا رؤية الواقع من خلال حقائقه المادية بمعزل عن عواطفنا الفردية أو الجمعية. كان ذلك عسيرا في البدايات الأولي بالطبع، وكثيرا ما جري الخلط إزاءه بين مفهومين وتعبيرين هما “الحيادية” و”الموضوعية” وهو خلط ما زال حاضرا إلي يومنا هذا وإن كان بدرجة أقل.
لم يكن مطلوبا من البحث الموضوعي أن يكون محايداً، بالمعني الذي يحرم الباحث من التعبير عن مواقفه (وحتي انحيازاته) مما يتناوله في بحثه، بل كان المطلوب ولا يزال الحياد أمام المعلومة الحقيقية، التي يتوجب أن يعترف بها أولا، حتي وإن جاءت صادمة متعاكسة مع قناعاته وأهوائه السياسية.
بهذا المعني بالذات، أعتقد أن الراحل أنور عبد الملك نجح في تأسيس منهج بحثي نقدي، يقوم علي الموضوعية ولا يصادم الحقيقة في محاولة زجرها ونفيها، وهو فعل ذلك تماما حين راح يقرأ الحدث الواقعي كما جري في الحياة ويربطه بعوامله وبالذات الإقتصادية منها.
العام ذاته الذي تعرفت فيه علي كتاب أنور عبد الملك “مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون” هو الذي شاهدت فيه فيلم الراحل يوسف شاهين الشهير أيضا “الأرض”، والذي تناول جانبا من صراع الفلاحين المصريين من أجل البقاء ومن أجل الحفاظ علي أراضيهم الزراعية في مواجهة قوانين السلطة آنذاك. الفيلم حققه شاهين كما هو معروف عن رواية شهيرة في الأدب المصري حملت العنوان ذاته للكاتب الراحل عبد الرحمن الشرقاوي، وشكلت علي مدي عقود جزءا من ذاكرة المثقفين المصريين والعرب وبالذات اليساريين منهم. ربما تذكرت “الأرض”، فيلما ورواية في مقام الحديث عن الراحل عبد الملك وكتابه بسبب من اجتماع الكتاب والرواية والفيلم علي فكرة بالغة الأهمية: رؤية السياسة وأحداثها و”منطقها” خارج المفردات السياسية المباشرة، التي كثيرا ما تخدع، أو علي الأقل تظلُ قاصرة عن الإحاطة بالأسباب الكامنة أو غير المباشرة، التي تجعل هذا الحدث السياسي ممكن الوقوع فعلا، وتجعله بعد ذلك قابلا للتفسير وفق منطق متكامل ومنسجم.
في ذلك العام، وقبل شهور قليلة من رحيل جمال عبد الناصر، كانت “الأرض” التي يتحدث عنها الفيلم هي أرض الفلاحين المهددة بالمصادرة من الدولة وكانت أذهان المشاهدين تذهب إلي الأرض الأخري تلك التي كانت محتلة في سيناء قبل ذلك بسنوات ثلاث فقط، فيما كانت حرب الإستنزاف مشتعلة علي طول قناة السويس.هي العلاقة المصيرية بين البشر ومصائرهم الفردية في اقتصادهم وأيامهم وبين السياسة بمعناها العام وعناوينها الكبري والعريضة، والتي كانت في مطلع السبعينات مفتوحة علي أسئلة الحرب والفساد الداخلي في أعقاب هزيمة الخامس من حزيران 1967.
أنور عبد الملك أحد أبرز مثقفي مرحلة النهضة، أولئك الذين أسسوا وعيهم وثقافتهم علي مرتكزين أساسيين التعليم الأكاديمي العالي والعميق، ثم الثقافة الفردية التي ذهبت في اتجاهات عديدة من الفلسفة الي الإقتصاد والأدب، وكان وعيهم يمضي عميقا في اتجاه التحرُر بمعاني متعدّدة، تشمل التحرُر من الهيمنة الأجنبية لتصل إلي التحرُر من عوامل الإحباط الداخلية بما في ذلك حلَ المعضلات الكبري، وعلي رأسها قضايا الفلاحين والخروج من حالة التخلف. هؤلاء المثقفين وجدوا أنفسهم ووعيهم وفكرهم في حالة صدام مباشر مع كل تلك الإحباطات. وكان سعيهم يتجه نحو التنوير بمعناه الشامل، الذي يؤسس حقا لنهضة صناعية وتعليمية، ويسعي لتحديث الزراعة ورفع شأن المرأة ومنحها حقوقها السياسية والإجتماعية كاملة.
بكل هذه المعاني وغيرها، نري، اليوم غياب أنور عبد الملك بعيداً عن وطنه (في باريس)، هو الذي عاش في مصر ومن أجلها ومن أجل ناسها البسطاء الذين كتب عنهم ومن أجلهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.