يواجه النمط الأوروبي للرأسمالية ، الذي يوصف أحياناً بأنه ” نمط الراين ” للتمييز بينه وبين النمط الأنجلو ساكسوني ، نوعية مختلفة من المشاكل . و يتسم هذا النمط الأوروبي بمعدلات ادخار واستثمار تفوق كثيرا نظيرتها في أمريكا ، كما أنه يكتسي طابعاً جماعياً متقدماً، وينطوي علي اتجاه للتوسع كثيراً في الاستثمارات الأجتماعية . غير أنه يؤمن بأن الأمان الاجتماعي هو النتاج الصحيح للتقدم الاقتصادي ، وأن هذا الالتزام بالمطالب الاجتماعية ، التي لا تقبل الجدل ، ونظام التأمينات الاجتماعية لا يمكن أن ينجحا في ظل عولمة الاقتصاد . و ليس أدل علي ذلك من اقالة وزير المالية الفرنسي لمجرد تقديمه اقتراحا بخفض الاعانات الاجتماعية . بينما يشكل نصيب القطاع العام في تمويل التأمينات الاجتماعية في أمريكا 55 % مقابل 45 % للقطاع الخاص ، تصل هذه النسبة في أوروبا الي 80% مقابل 20% للقطاع الخاص . ونتيجة لذلك ، من المتوقع أن تهب رياح انهيار نظام التأمينات الاجتماعية هذا ، مبكرا في أوروبا ، وأن تكون أشد وطأة عنها في أمريكا . ولقد عبر مواطن الماني عن ذلك بدقة بقولة : ” نحن شعب ذو توجه اجتماعي ، يمثل فيه التزام القوي صوب الضعيف مفهوما لم نعد نستطيع تحمل عبئة “. ونتساءل هل النظام الرأسمالي علي وشك الانهيار ؟ وخاصة بعد أن نبهت الأممالمتحدة الي أن أزمة منطقة اليورو تشكل أكبر خطر علي اقتصاد العالم. وتزامن التحذير مع تأكيدات أمريكية علي مراقبة تداعيات الأزمة علي جهد انعاش الاقتصادي الأمريكي . وفي تقرير صادر مؤخرا عن الأممالمتحدة ان تفاقم أزمة ديون منطقة اليورو قد يؤدي الي تدهور النمو العالمي. وقال التقرير الذي تناول وضع الاقتصاد العالمي وآفاقه في عام 2012 ان “أزمة ديون منطقة اليورو مازالت تشكل خطرا داهما علي الاقتصاد العالمي”. وأضاف أن “تصاعد الأزمة قد يقترن باضطرابات شديدة في الأسواق المالية وزيادة حادة في العزوف عن المخاطرة علي مستوي العالم، ما يؤدي الي انكماش النشاط الاقتصادي في الدول المتقدمة وامتداد الأثر الي البلدان النامية والاقتصادات التي تشهد تحولا. “وقال التقرير “بعد تباطؤ ملحوظ في عام 2011 من المتوقع أن يظل النمو الاقتصادي العالمي فاترا في 2012 حيث ستنمو معظم المناطق بوتيرة أقل من امكاناتها . “وتوقع التقرير تراجع نمو الناتج الاجمالي العالمي من 2.7 في المئة في 2011 الي 2. 5 في المئة في عام 2012 ثم يعاود الارتفاع الي3.1 في المئة في 2013 . وقالت منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي ان أزمة منطقة اليورو تشكل أكبر خطر علي الاقتصاد العالمي. وتوقعت المنظمة، التي تقدم النصح للدول الصناعية المتقدمة، ان تنكمش اقتصادات دول اليورو ال17 بنسبة 0.1 في المئة هذا العام علي ان تنمو بنسبة 0.9 في المئة العام المقبل. وعلي عكس ذلك، فقد توقعت أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 2.4 في المئة العام الجاري وبنسبة 2.6 في المئة العام المقبل. كما أيدت المنظمة دعوات بعض الاوروبيين للمزج بين اجراءات خفض الانفاق وخطوات تنشيط النمو. وقال كبير الاقتصاديين في المنظمة بيير كارلو بادوان: “لا تزال الازمة في منطقة اليورو تشكل أكبر خطر علي التوقعات المستقبلية للاقتصاد العالمي”. وأضافت منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي: “ما لم يتم التصرف بسرعة ستسوء الازمة الاوروبية وقد تمتد خارج منطقة اليورو مع تبعات خطيرة علي الاقتصاد العالمي”. وبعدما أظهرت الأرقام أن بريطانيا دخلت مجددا في الركود في الربعين الاخيرين، توقعت المنظمة أن ينمو الاقتصاد البريطاني بنسبة 0.5 في المئة هذا العام وبنسبة 1.9 في المئة في 2013. وصفة هولاند وقبل يوم من لقاء غير رسمي لقادة دول الاتحاد الاوروبي في بروكسيل، بدا وكأن المنظمة تؤيد دعوة الرئيس الفرنسي الجديد لتفعيل اجراءات مثل “زيادة تمويل بنك الاستثمار الأوروبي لمشروعات البنية التحتية”. كما قالت المنظمة إنه يمكن “الاستفادة بشكل أفضل” من حسابات البنك المركزي الاوروبي ودعت الي “مزيد من خفض الفائدة في منطقة اليورو”. وتوقعت المنظمة أن تظل نسبة البطالة في منطقة اليورو عالية، وأن تصل الي 10.8 في المئة هذا العام و11 في المئة العام المقبل. ونسبة البطالة الآن عند 10.9 في المئة، وهي الاعلي منذ بدء استخدام اليورو عام 1999. وبعد أن عقد زعماء الدول الثماني الصناعية الكبري اجتماعا يسعون من خلاله لدرء أزمة متفجرة في أوروبا، حيث تتصاعد المخاوف من خروج اليونان من منطقة اليورو الأمر الذي يهدد مستقبل العملة الموحدة. وحض الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي استضاف قمة مجموعة الثماني ، زعماء الاتحاد الأوروبي مراراً علي بذل مزيد من الجهود لتحفيز النمو خشية انتشار أزمة منطقة اليورو التي قد تضر بالاقتصاد الأمريكي، وفرص أوباما لاعادة انتخابه في نوفمبر2012. تأتي القمة فيما يسحب اليونانون أموالهم من البنوك، وسط تزايد المخاوف من الخروج من منطقة اليورو وتفشي القلق في الأسواق المالية حيال احتمالات تفجر أزمة شاملة في الاتحاد الأوروبي. وقال مساعد لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، ان الأخير الذي أصبح أكثر حدة في حض أوروبا علي بذل مزيد من الجهد لحل أزمة الديون، سيتحدث خلال القمة عن ضرورة التعاون للحيلولة دون انتشار أزمة منطقة اليورو الي بقية دول العالم . منطقة اليورو وسبق ذلك ببضعة أسابيع ، أن قررت شركة الاستثمارات الصينية CIC))، الصندوق السيادي التابع للحكومة الصينية، خفض استثماراتها في الاسهم والسندات الأوروبية خوفا من أحتمال أنهيار منطقة اليورو علي خلفية أزمة الديون. وقال رئيس مجلس ادارة الشركة «لو جيوي» في مقابلة اجرتها معه صحيفة وول ستريت الامريكية “هناك خطر بأن تتفكك منطقة اليورو، وهذا الخطر في ازدياد. “ كما أسقط كل التكهنات القائلة ان شركته قد تقوم بشراء السندات الاوروبية اذا طرحت للتداول، اذ قال “ان المخاطرة كبيرة جدا، والعائد ضئيل جدا. “ولكن المسئول الصيني أضاف ان شركة الاستثمارات الصينية لا تنوي الانسحاب من السوق الاوروبية كليا، ولكنها ستركز نشاطها علي الاستثمار في الاسهم والسندات الخاصة ومشروعات البني التحتية حصرا. يذكر أن شركة الاستثمارات الصينية تدير اسثمارات تبلغ قيمتها الاجمالية 410 مليارات دولار، وكانت قد أسست في 2007 بغرض زيادة عائدات الاحتياطات المالية الصينية، علما بأن الصين تمتلك احتياطا نقديا بالعملات الاجنبية يبلغ حجمه 3,3 ترليون دولار وهو الاضخم في العالم علي الاطلاق. إن الرأسمالية مطلوب منها علي وجه التحديد أن تفعل ما لا تجيده – وهو الاستثمار طويل المدي ، وادخال تعديلات علي هيكلها الأساسي من أجل تشجيع الأفراد و الشركات و الحكومات علي اتخاذ قرارات بعيدة المدي . و يتمثل الدور المنوط بالحكومة في العمل علي الأرتقاء بالاستثمار العام و الخاص الي أعلي مستوي ، من أجل تهيئة ظروف أفضل في المجتمعات الرأسمالية . ويبين لنا التاريخ أنه من الوارد وجود توازنات جد مختلفة بين العام و الخاص ، وبين الاستهلاك و الاستثمار ، و لكن من المحال اقامة مجتمع ناجح دون نوع من التوازن في المجالين كليهما . وسوف يتعين علي الرأسمالية في العهد القادم أن تضع مبادئ و مفاهيم و مؤسسات جديدة في كل من هذه المجالات . وفي اعتقادي أن الرأسمالية تواجه خطراً ، ولكنه ليس بخطر الانهيار مثلما آلت اليه الشيوعية ، فلن يتعرض النظام الرأسمالي للتدمير الذاتي ، حتي لو لم يوجد المنافس الذي يمكن أن يهرع اليه الناس إذا بلغ الاحباط لديهم مداه من جراء ما يتعرضون له من معاملة في ظل هذا النظام . و لنا في التاريخ عبرة و مثل ، فرغم أن الاقتصاديات الفرعونية و الرومانية و الصينية وغيرها لم يكن لها من منافس كذلك ، فلم تتعرض للانهيار ، و انما تعرضت للركود لعدة قرون قبل أن تندثر. الخطر المحدق بالرأسمالية هو خطر الركود و ليس خطر الانهيار.