تآكل الأصولية الرأسمالية يبحث الناس في الأيام المظلمة عن نقطة ضوء، وتعيش الإنسانية الآن أياما مظلمة حيث تتهدد الاقتصاد العالمي أزمة كبري تفوق في حدتها ما حدث قبل ثلاثة أعوام، وما حدث في ثلاثينات القرن الماضي، «وإذا لم يسلك السياسيون بجرأة وشجاعة فإن الاقتصاد العالمي سوف يواصل الاندفاع نحو الثقب الأسود.. نحو الكارثة ولابد أن تخافوا..». كانت هذه الجملة الأخيرة «لابد أن تخافوا» هي التي حملها غلاف مجلة «الإيكونوميست» الاقتصادية البريطانية المحافظة العريقة، والتي طالما دافعت عن النظام الرأسمالي بل عن الأصولية الرأسمالية التي تعتمد بل تؤمن إيمانا شبه ديني بالاقتصاد الحر دون ضوابط وتنفر كلية من أي تدخل للدولة في شئون الاقتصاد. ولكن «الإيكونوميست» دعت السياسيين والدولة للتدخل أمام الأزمة المتفاقمة وعنوانها هذه المظاهرات الحاشدة في أمريكا ضد حي المال والأعمال في «وول ستريت» بنيويورك، والحشود التي اندفعت قبل يومين في شوارع لندن تحتج علي الإفقار، وأزمة «اليورو» في أوروبا التي تهدد بإعلان إفلاس اليونان، والأزمات العاصفة في كل من إسبانيا وإيطاليا والبرتغال «وحتي لو جري تجنب الكارثة في أوروبا فلايزال الأفق مظلما بالنسبة للاقتصاد العالمي الذي يقف علي حافة خطر محدق» كما تضيف الإيكونوميست. وهي تؤكد أيضا أن الاقتصاديات الناشئة والواعدة لم تعد تشكل طوق نجاة للاقتصاد العالمي لأنها تواجه بدورها مشكلات كبيرة «إذن ما من مكان للاختباء» كما تقول المجلة. ولكن المجلة المحافظة التي شخصت حالة الاقتصاد العالمي لم تدفع بالمنطق الذي جعلها تتوقع الكارثة إلي نهايته، فبعد ثلاثة عقود من تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة ثبت فشلها الذريع في تحقيق الوعود التي أطلقتها، وهي السياسات التي تبناها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وهيئة المعونة الأمريكية، ووضعها موضع التطبيق في البداية حزبان محافظان كبيران يتحكمان بهذه الدرجة أو تلك في السياسات العالمية هما الحزب الجمهوري الأمريكي بقيادة «رونالد ريجان»، وحزب المحافظين البريطانيين بقيادة «مارجريت تاتشر»، بل إن المنظمات المالية العالمية فرضت هذه السياسات التي قلصت دور الدولة إلي الحد الأدني علي غالبية بلدان العالم كشرط لإقراضها، مما أدي إلي زيادة الانقسام الاجتماعي، حتي إن مظاهرات «وول ستريت» تطلق شعار إن 99% من الشعب الأمريكي يواجهون الآن الواحد في المائة من الأمريكين الذين احتكروا الثروة وهيمنوا علي السلطة السياسية والاقتصادية، وفي أوروبا تدعو المظاهرات إلي إعادة النظر في السياسات الاقتصادية - الاجتماعية كافة، وتتخذ الأزمة في أوروبا في أحد مظاهرها شكل النمو السريع للنزعات والأفكار والجماعات العنصرية من نازيين جدد ومعادين للإسلام وللمهاجرين والغرباء عامة. وصلت الأصولية الرأسمالية إذن إلي نهايتها، هي التي أطلقت علي الصعيدين الفكري والسياسي كل أشكال الأصولية الأخري وبشكل خاص الأصولية الدينية إسلامية ومسيحية ويهودية وبوذية وهندوسية، وجميعها تعبير عن الأزمة العميقة علي الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، حيث يعيش 70% من سكان العالم علي الاقتصاد الهامشي. وقد خاصمت الأصوليات كافة تلك التوجهات العقلانية الشاملة التي لازمت نشوء الرأسمالية وأدت في زمنها إلي التطور الاقتصادي والهيمنة السياسية للطبقة البورجوازية الأوروبية، ومن معطف هذه العقلانية نشأت فلسفة التنوير، وخاض المنورون العظام الأوائل صراعا لا هوادة فيه ودون أي مساومة مع اللاهوت ومع كل أشكال الميتافيزيقا في الفلسفة والعلم والسياسة. وكل من اللاهوت والميتافيزيقا كانا مكونين أساسيين لأيديولوجيا الإقطاع العدو اللدود للرأسمالية. والآن وفي ظل أزمتها الراهنة والطريق المسدود الذي وصلت إليه، تعود الأصولية الرأسمالية إلي إطلاق ومساندة كل من اللاهوت والميتافيزيقا ضد القوي الناهضة في العالم كله التي ستنجح في نهاية المطاف ومهما طال الزمن، لا فحسب في التعجيل بانهيار الأصولية الرأسمالية التي تتآكل ولكن أيضا في تجاوز الرأسمالية ذاتها إلي الاشتراكية. تساءل أحد المذيعين وهو يبث خبر اندلاع مظاهرات لندن والمقارنة بينها وبين ما يحدث في أمريكا هل هو النضال ضد العولمة، وبوسعنا أن نرد إنها عولمة النضال ضد الرأسمالية.