أموال أمريكا في مصر لعل الجميع قد تأكدوا الآن من صدق ما قلناه منذ أعوام، وهو أن منظمات المجتمع المدني لا يصح أن تعتمد علي التمويل الأجنبي، حتي لا تخسر مصداقيتها أو تتعرض لشبهة تلبية احتياجات أجندات أجنبية.. وتقلباتها. فها هي إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تخفض ما تسميه أموال «تشجيع الديمقراطية» في مصر بنسبة خمسين في المائة وفي بيان أصدرته وكالة المعونة الأمريكية أن هذه التخفيضات ترجع إلي خطة مقررة سلفا، خلال السنوات الماضية، للتقليل من المعونة غير العسكرية لمصر بوجه عام، بدليل أن الإدارة الأمريكية أجرت تخفيضات مماثلة لبرنامج «دعم الديمقراطية» في الأردن، وهي أيضا حليف للولايات المتحدة. والمعروف أن مصر كانت تتلقي أكبر معونة خارجية أمريكية، وقدرها 2 مليار دولار سنويا - بعد إسرائيل - تقديرا لها علي توقيع معاهدة الصلح مع إسرائيل عام 1979، وكانت تشمل 3.1 مليار كمعونة عسكرية. وقد بدأ تخفيض المعونة غير العسكرية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، وأصبح حجم المعونة هذا العام 55.1 مليار دولار - مثل العام الماضي - وتشمل 250 مليون دولار معونة غير عسكرية. وكانت إدارة بوش قد خصصت في عام 2008 حوالي 45 مليون دولار من هذا المبلغ لبرامج تحمل اسم «الحكم بالعدل والديمقراطية»، وكان هذا المبلغ يقدم مباشرة لمنظمات غير حكومية. أما إدارة أوباما، فقد اكتفت بتخصيص 20 مليون دولار فقط لما يسمي برنامج تشجيع الديمقراطية، وحولت المبلغ المتبقي من ال 45 مليون إلي برامج اقتصادية بحتة، وهو يتجاوز قليلا 25 مليون دولار للسنتين الماليتين 2010 و2011. وفرضت الإدارة الأمريكية قواعد جديدة تمنع وصول أموال المعونة إلي منظمات مصرية أو غير مصرية لا تكون مسجلة وفقا للقوانين المحلية. وقالت وكالة المعونة الأمريكية أن أموالا من وكالات أخري (أمريكية) مازالت تصل إلي جماعات غير مسجلة، ولكن هذه الأموال انخفضت من عشرة ملايين دولار في عام 2008 إلي 6ر2 مليون الآن. وتملك الحكومة المصرية حق الفيتو فيما يتعلق بالجهة التي تتسلم المعونة والجهة غير المسموح لها بتسلم المعونة الأمريكية من المنظمات غير الحكومية. وهذا يعني أن منظمات المجتمع المدني يجب أن تكون موضع الرضا من جانب الحكومة المصرية حتي يسمح لها بتسلم المعونة..، أي أن تتحول المنظمات غير الحكومية إلي ... منظمات حكومية! الواضح أن ثمة تغييرا في الأولويات بالنسبة للإدارة الأمريكية .. فقد أدركت إدارة اوباما أن حملات الدعاية والتضليل، التي قامت بها إدارة بوش حول «الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان» لم تعد تخدع أحدا، وبالتالي فإن الأجدي هو توفير المال لتمويل العمليات العسكرية الأمريكية في افغانستان وباكستان، وكذلك تقديم معونة اقتصادية ومساعدات للتنمية هناك في الحدود التي تخدم سياسة الولاياتالمتحدة. وهذا يفسر رفض وكالة المعونة الأمريكية طلبات من مصريين للحصول علي أموال لمراقبة انتخابات مجلس الشوري (300 ألف دولار) وأموال أخري لمراقبة انتخابات مجلس الشعب في نوفمبر القادم.. وأموال لتمويل مشروع آخر يسمي «راديو حريتنا». ولسنا في حاجة إلي التذكير بأن امريكا هي أكبر داعم للأنظمة الديكتاتورية في العالم، وأن التلويح بقضية الديمقراطية لم يكن يستهدف سوي ابتزاز أنظمة معينة لتخويفها حتي تظل ملتزمة بالدوران في الفلك الأمريكي0 وجود منظمات المجتمع المدني ضرورة حيوية وركن رئيسي لبناء مجتمع ديمقراطي، ولكن للتمويل الأجنبي اغراض ودوافع أخري.