والكتابة عن دور أحمد لطفي السيد بالغة الصعوبة، وتقييم هذا الدور اكثر صعوبة، لكنني وقبل أن أخوض غمار الكتابة الصعبة أروي واقعة اثارت دهشتي فإذ قررت جامعة اثينا العريقة منحي درجة الدكتوراة الفخرية وخلال الاحتفال المهيب تحدثت رئيسة الجامعة وقالت إن اول من حصل علي الدكتوراة الفخرية من جامعتنا من المصريين كان احمد لطفي السيد تقديرًا لدفاعه عن الديمقراطية، أما الثاني فهو طه حسين عن كتابه "في الشعر الجاهلي" وكنت انا الثالث ممتلكا زهو المقاربة مع هذين العملاقين. وإذ أتحدث إلي احمد لطفي السيد محاولا ان اكتب بطريقتي المعتادة وهي محاولة تجميع كل ما هو متاح من معلومات، ساعيا نحو اكبر قدر منها وجدت أمامي أكواما من الكتابات والمقالات والدراسات الأكاديمية بما قد يجهد القارئ ويطيل أمد الدراسة فجمعت ثلاثة من كتبه "قصة حياتي" و"صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية في مصر من مارس 1907 إلي مارس 1909″ "وتأملات" وكعادتي تجنبت المصفوفات التي اصبحت تتسيد الكتابات المماثلة دون أن تمتلك مصداقية حقيقية.. مثل ويكيبيديا وغيرها. وبطبيعة الحال سأبدأ بما رواه احمد لطفي السيد عن نفسه بنفسه. في "قصة حياتي"، والكتاب في طبعته الأخيرة (2013). من 134 صفحة من القطع الكبير بما يقتضي ان نمضي سريعا عبر صفحاته. ونقرأ "نشأت في اسرة مصرية صميمة لا تعرف لها إلا الوطن المصري، ولا تعتز إلا بالمصرية، ولا تنتمي إلا إلي مصر ذلك البلد الطيب الذي له من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقي والمجد. ولدت في 15 يناير 1872 بقرية برقين وكان والدي السيد باشا ابو علي عمدة القرية. ودخلت الكتاب في سن الرابعة ومكثت فيه ست سنوات تعلمت فيها الكتابة والقراءة وحفظت القرآن (ص8) والتحقت بمدرسة المنصورة الابتدائية وكانت المدرسة الوحيدة بالدقهلية وناظرها امين سامي باشا. وبعدها سافرت إلي القاهرة لألتحق بالمدرسة الخديوية وحصلت علي البكالوريا في 1889 والتحقت بالحقوق. وفي صيف 1893 سافرت للآستانة وعلي احد المقاهي وجدت سعد بك زغلول وكان وقتذاك قاضيا والشيخ علي يوسف وحفني بك ناصف وقد تأهبوا لزيارة السيد جمال الدين الافغاني فذهبت معهم. وتتلمذت علي يديه طوال اقامتي بالآستانة . (ص16).. وتخرجت 1894 وعينت كاتب نيابة ثم في 1896 وكيل نيابة. ومع مجموعة من الاصدقاء انشأنا جعية سرية غرضها "تحرير مصر" من الاحتلال. ولكنني قابلت مصطفي كامل فقال لي إن الخديوي يعلم كل شيء عن جميعتكم السرية ولا يتنافي معها أن تشترك معنا في تأسيس حزب وطني تحت رئاسة الخديوي الذي طلب مني أن أسافر إلي سويسرا لمدة عام (فأكسب جنسيتها وفق قانونها) ثم اعود لاصدر جريدة تقاوم الاحتلال. وكان الحزب سريا والخديوي اسمه "الشيخ" ومصطفي كامل "ابو الفدا" وأنا ابو مسلم" (ص28) وقد غضب الخديوي مني بسبب صداقتي بالشيخ محمد عبده، ولما عدت ارسلت تقريرًا إلي الخديوي قلت فيه "إن مصر لن يحررها إلا أبناؤها والمصلحة الوطنية تقتضي ان يرأس الخديو حركة شاملة لنشر التعليم العام. وقررت أن اشتغل بالسياسة وأن أقوم بتأسيس حزب سياسي واصدار جريدة له. وأن تكون الجريدة مستقلة لا تتصل بالخديو ولا بالاحتلال وفي بيت محمود باشا سليمان عقدنا اجتماعا وتأسست شركة "الجريدة" ورئيسها محمود باشا سليمان ووكيلها حسن باشا عبد الرازق. والجريدة صحيفة مصرية شعارها الاعتدال ومراميها السعي نحو الرقي، وكنت انا مديرًا للجريدة ورئيسًا لتحريرها.. ولأن الموقف من الاحتلال كان القول الفصل عند المصريين فإن كثيرين من النخبة المثقفة بادروا بالهجوم علي صحيفة الجريدة ومؤسسيها ويقول لطفي السيد "وبعد تأليف هذه الشركة أخذت الجرائد المتصلة بالخديو عباس تتهمنا بأننا متصلون بالانجليز وأننا نملأهم ضد الخديو، وكان لهم عذر في هذا الاتهام لأنه كان بين شركائنا في الجريدة – عدا الاعيان- طائفة من كبار الموظفين المصريين في الوقت الذي سيطر فيه الانجليز علي الحكومة ومن هؤلاء احمد فتحي زغلول باشا (قاضي محكمة دنشواي) وكان آنذاك رئيس محكمة مصر، واحمد عفيفي باشا المستشار بالاستئناف وعبد الخالق ثروت باشا عضو لجنة المراقبة وصاحب النفوذ الكبير في وزارة العدل" (ص23) ويمضي احمد لطفي قائلاً: "ومن الطريف أن كانت هناك جريدة يصدرها وقتئذ حافظ عوض باسم خيال الظل فنشرت ابياتا ينسبها بعضهم إلي احمد شوقي جاء فيها "ما في الجريدة من ترجيه سوي / لطفي فردوه لنا ولكوها" وقد بقيت هذه عالقة "بالجريدة" وحزب الأمة وزمرة أعيان الريف وابنائهم" وفي 9 مارس 1907 صدر العدد الاول من الجريدة وفي الافتتاحية نشر احمد لطفي السيد مقالا يرد فيه بحذر علي المهاجمين فيقول "ما الجريدة إلا صحيفة مصرية، شعارها الاعتدال الصريح، ومراميها ارشاد الامة المصرية إلي اسباب الرقي الصحيح، والحض علي الاخذ بها، واخلاص النصح للحكومة والامة بتبيين ما هو خير وأولي، تنتقد اعمال الافراد واعمال الحكومة بحرية تامة، اساسها حسن الظن". ويمضي قائلاً: "لا يكون من أهل الوطن الواحد أمة إلا إذا ضاقت دائرة الفروق بين أفرادها، واتسعت دائرة المشابهات بينهم، وان اظهر المشابهات في حالة الأمة السياسية هو التشابه في الرأي بين الافراد وهو ما يسمونه بالرأي العمومي" (ص24) ويواصل لطفي قائلاً: إنه بعد صدور الجريدة بأيام رحل كرومر عن مصر "وسارت الجريدة في طريقها. لكن التأمل في افتتاحية العدد الاول يكشف وبوضوح ما كان لطفي يخشاه وهو أن الرأي العمومي سيدرك وبوضوح ان هدف الجريدة "إخلاص النصح للحكومة والأمة" وفتش الوطنيون في الافتتاحية باحثين حرفًا حرفًا ليجدوا أن نهج الاعتدال مع الحكومة (اي الاحتلال) هو فعل غير وطني وطالت هجماتهم لأحمد لطفي السيد نفسه. لكن لطفي لا يعبأ، وفي مذكراته (قصة حياتي) يمتدح كرومر قائلاً: " ليس في وسع احد أن ينكر النتيجة التي وصلت إليها مصر بفضل سياسته المالية، فإن كل عاقل يحكم بأن لورد كرومر من خيرة الاقتصاديين وأكابر الماليين.. وليس بعجيب أن تعظم ثقة الأوروبيين باللورد حتي صاروا يعدون كلمته حجة" (ص31). وأيًا كان الامر وسواء كان هذا التقييم صائبًا أم غير صائب فإن الكثير من الرأي العام المصري لم يكن ليقبل أي مديح لكرومر صادقا كان أم غير صادق. وحتي في مجال السياسة فإن لطفي يقول "لا ينكر أحد علي لورد كرومر أنه سياسي محنك بعيد النظر رحب الصدر طويل الأناة غير أن سياسته فيها اثر من العسكرية التي صرف فيها شبابه وقد جعله هذا شديد المراس في مطلبه عظيم الاصرار علي امره ويبقي سنوات عديدة يسعي إلي غاية واحدة (ص32). وهكذا كتب أحمد لطفي السيد علي نفسه ان يظل ابدا محل انتقاد وتشكك من الرأي العام للنخبة المصرية التي لا تنسي أبدا من وقف في صف الاحتلال. ونواصل.