ويحاول أحمد لطفي السيد أن يبرر ما أسماه سياسة الاعتدال حتي في تقييم كرومر. ومهما حاول فإن المصريين يرفضون قوله. وفي تحليله المطول في مذكراته لشخصية كرومر وللسياسة الانجليزية في مصر يحاول أن يدافع عن موقفه فيتساءل "فهل يكون المصري غير صادق إذا بني فكره علي إعمال المشاهدة من خير وشر واستنتج من هذه الاعمال نتيجتها اللازمة، وهي أن الاحتلال قد جاء ببعض الفوائد، ولكن حرمان الأمة من الحياة السياسية خطر علي الأمة، و يوجد الضجر والقلق وسوء الظن بالاحتلال، فتكون النتيجة أن تطبيق القاعدة المذكورة علي وجود الاحتلال (هو الوسيلة) وعلي فوائده (وهي المطلب) من الصعوبة بحيث لا يمكن تطبيقها من غير تعسف إلا إذا اوضح الاحتلال للمصريين انه يسعي لمنح مصر حياة سياسية بالتدريج" (ص40) والحقيقة أن لمحة تعاطف مع الاحتلال حتي لو اتخذت سمة موضوعية لا يمكنها أن تمنح صاحبها اي تعاطف من النخبة المتوسطة في مصر. حتي لو اضاف إليها صاحبها (احمد لطفي السيد) "ولا ينكر أي منصف ان الحكومة اهتمت في السنين الاخيرة بأمر نشر التعليم بين طبقات الفلاحين ونجحت في تذليل كثير من الصعوبات التي كانت تقف في طريق تعليم البنات، ولو اضافت إلي ذلك منح الأمة شيئا من المشاركة معها في العمل لاقتنع الناس بأن الاحتلال مؤقت وانه لا يقيم إلا ريثما تصلح مصر لحكم نفسها بنفسها" (ص40) ثم هو يعود إلي تفلسف لا يفيده في شيء فيقول "وبذلك يمكن القول بحق أن من يبغ المطلب (الفوائد) يبغ الوسيلة (الاحتلال). وينحني احمد لطفي السيد بعد ذلك ليهاجم فكرة الجامعة الإسلامية (كتمهيد لمهاجمة فكرة الخلافة الإسلامية، كرد علي امثال الشيخ جاويش الذي كثيرا ما ردد عبارات من نوع اضاعة الخلافة للذات) فيقول "أما كون الجامعة الإسلامية (الباناسلاميزم) موجودة وجودا حقيقيا، أو أنها مقصد من المقاصد التي يسعي المسلمون لتحقيقها فهذا لا دليل عليه مطلقا ، كما انه يستحيل تحقيقها بالمرة". ويقول "علمنا التاريخ وطبائع البشر انه لا شيء يجمع بين الناس إلا المنافع، فإذا تناقصت المنافع بين قلبين استحال عليهما أن يجتمعا لمجرد قرابة في الجنسية أو وحدة في الدين، وأبلغ مثال علي ذلك هو انشقاق المسلمين في خلافة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب مما هو مشهور ومأثور. ويقول .. "والحقيقة أن احسن ما قرأنا عن الجامعة الاسلامية هو ما ذكره الاستاذ براون في خطبته التي ألقاها في جامعة كمبردج سنة 1903، وأبان فيها أن فكرة الجامعة الاسلامية هي خرافة ابتدعها مراسل التيمس في فيينا. (ص41) وبعد ذلك يحاول لطفي السيد أن يبرر هجوم كرومر علي الإسلام والجامعة الإسلامية بأنه قد يكون الغرض منه بعث القلق إلي نفوس السياسيين الاوربيين حتي لقد جره هذا الهدف إلي التعريض بأحكام الدين الاسلامي مدعيا أنها غير صالحة للتطبيق في زماننا هذا" ثم يعود لطفي السيد ليدافع أن حكم الاحتلال "أن جلالة الملكة يظلل من المسلمين أكثر مما يظلل حكم اي ملك آخر وهم في عيشة هنية وسعادة تحت حكمها الكثير الخيرات، ودينهم موقر وعاداتهم الشرعية محترمة كل الاحترام" وبكلمات كهذه يزداد لطفي السيد عزلة.. ويزداد كثير من المصريين رفضا له.. ونمضي مع مذكرات أحمد لطفي السيد لنطالع بعضا من المواقف. * بعد أن جردت الأمة من سلطتها والحكومة الاهلية من هيبتها آمن المصريون بأن الانجليز طامعون لا مصلحون، وأخذ كل موظف يحتمي برئيس انجليزي، والعمد والاعيان يستعينون في قضاء اعمالهم بالتقرب من الانجليز. * وفي سنة 1909 ارادت الحكومة بعث قانون المطبوعات الذي كان قد صدر أيام الثورة العرابية وهو قانون بالغ القسوة علي حرية الرأي. فحملت أنا وزملائي الصحفيين علي ذلك القانون حملة قوية ولكننا لم نوفق. * وفي ذات العام (1909) ارادت شركة قناة السويس أن تمد امتيازها اربعين سنة جديدة مقابل اربعة ملايين جنيه تدفعها للحكومة المصرية، فذهبت إلي المستشار المالي الانجليزي طالبا عرض الموضوع علي الجمعية العمومية وهي اكبر هيئة نيابية ولم يوافق، وذهبت إلي رئيس الوزراء بطرس باشا فقال لي "يا لطفي انزل من السحاب لتكون معنا علي الارض" وسرت في حملتي ولكن حدث أن شركة قناة السويس هي التي طلبت عرض الموضوع علي الجمعية العمومية تلافيا لهياج الرأي العام، وبعد ذلك في سنة 1910 كنت في زيارة علي شعراوي باشا صديقي فدخل بطرس باشا بلا سابق موعد لأنه كان صديقا لشعراوي باشا. وقال كنت اتمشي في الجزيرة فلاحظ شعراوي باشا انه يسير هكذا بلا حراسة فقال "قد يكون معك حق لأني منذ ايام تلقيت خطابا يهددني بالقتل" فقلت له "يا باشا اظن أن الذي يريد أن يقتل لا يهدد" وقد اخطأت الظن لأنه رحمة الله قتل بعدها بأيام. * ونعود قليلا إلي الوراء لنقرأ "اعلن عن تأليف حزب الأمة في 21 ديسمبر 1907 وقد تضمن منهاجه عدة مسائل منها المطالبة بالاستقلال التام وبالدستور وتوسيع اختصاص مجلس شوري القوانين ومجالس المديريات تدرجا حتي ايجاد مجلس نيابي تتمثل فيه سلطات الشعب.. واختير محمود باشا سليمان رئيسا للحزب وحسن عبد الرازق باشا وعلي شعراوي باشا وكيلين وانا سكرتيرا عاما. وهاجمتنا بعض الصحف قائله ان الاستقلال التام يعني الخروج علي الباب العالي صاحب السيادة علي مصر. * وقد شجع ذلك الخديوي عباس حلمي الذي لم يكن راضيا عن الحزب ولا عن الجريدة، وافلحت بطانة الخديوي في اقناع بعض الشركاء في شركة الجريدة، وبدأوا في المطالبة بحل الشركة ورفع البعض منهم دعوي امام المحكمة المختلطة وسددت الخاصة لخديوية رسوم الدعوي ورفع الدعوي محامي الخاصة، وكتبت مذكرة بكل ذلك واعطيتها للافوكاتو جريدن المحامي عنا، وكان الامير حسين كامل (السلطان حسين كامل فيما بعد) رئيسا لمجلس شوري القوانين فدعا رئيس الحزب وشعراوي باشا وانا وقال "أنا لا افهم انكم ترفعون دعوي علي خديوي البلاد. فقلت "يا افندينا لكن سمو الخديوي هو الذي رفع علينا الدعوي" ودخل علينا بطرس باشا واتفقنا علي أن يطلب المدعون تأجيل الدعوي لأجل غير مسمي ومازالت مؤجلة. (ص53).