عندما يسكن فيلم بدقائقه بقلبك حتى تتفتح حقيقة أن الجندي الضحوك كان بموته كأنه يعير ضحكته لمصر، ذلك أن الأغنية التي تسري رويداً رويدا فى أعماق سارية المشاة المدافعة عن الممر تردد : وتعيشي يا ضحكة مصر، فأنت أمام فيلم يبني أغنية سينمائية على مهل. مربكة لحظة استشهاد مرسي بين معاني ومشاعر الموت والحياة. "حاسس بإيه يا مرسي" "حاسس اني مش قادر أضحك. وصورة حبيبته وزوجته المنتظرة حزينة متداخلة بشدة مع أفق السماء. بلا تزيد يعير الضحوك ضحكته لمصر بكل غلاوة الضحكة "أنا لو ما اضحكتش أموت". بكل محبة الحياة ولوعة الفراق. يتهادى هذا البناء للمعنى والصورة فيما يشبه العفوية التي تغافلك، معززة بروح مرسي الفكاهية كأنه وسط كتيبة الموت نبض الحياة ذاتها. ما زلت أتأمل فيلم (أغنية على الممر). عنما يبدأ الفيلم بجهاز لاسلكي أصابه العطب لينقطع الاتصال بالقيادة فى تأسيس لمعنى ‘الترك' لسارية مشاة أو من تبقى منها فى عمق الصحراء وجفاف الجبل ومرعى العدو. فى المقال السابق ألححت فى نفى صفة الإدعاء عن الفيلم، وهذه المرة أربأ به عن التنازل. فمنذ الدقيقة الأولى يبني إدانة فنية دقيقة فى وقت شديد الحساسية السياسية للقيادة التي تخلت، وحسرة قرب نفاذ الذخيرة، ويمهد دراميا فى ذات الوقت لملامح قيادة جديدة ... الرقيب محمد. ذلك الذي تطوع فى الجيش إثر الهزيمة العسكرية فى 56 شاعراً بالغبن والتقصير تجاه جثث زملائه الملقاة فى الصحراء. القيادة الريفية الجديدة الآتية من عمق الائتمان على الأرض والتي تعي أن الممر ملك لشهدائه والذين دافعوا عنه. سمات القيادة تتألق فى وجه محمود مرسي المهموم بسنين الهزيمة وعمقها، وتتبلور بالمناقشة،وروح المغامرة التي مسته من حمية الشباب، والقابلية للخطأ لينهي الفيلم بأكبر خروج عن الأمر التعسفى بالانسحاب، فيقرر الدفاع عن الممر حتى آخر جندي. لا دبابة واحدة تمر. القيادة التي تبقى وتصمد. يبدأ الفيلم به بقوله: مفيش فايدة، وينتهي بالأمر بالصمود وتصويب المدفع. ممر حرج ضيق من تبلور الوعي الدرامي بالهدف والمصير رغم و بسبب الهزيمة. وتدعيماً لصفات القائد الجديد ينوب فى الحراسة عن شوقي تقديراً لأمارات البطولة التي أبداها فى قنص لدبابات العدو، وبرشاقة سينمائية ينسحب من المشهد ليفسح للكاميرا أن تلف حلقة الشباب الأربعة باستدارة منفتحة للخارج عليهم. تتفتح ذكرياتهم وتتقارب شكاواهم وتتوحد مصائرهم، بل الحلقة تتيح مكاناً لمنير لولا كذبه الفاضح لا يخفف منه إلا تعرق صلاح قابيل خجلاً وتوتراً. فالكل يتطابق منطوقه بذكرياته الماضية مصورة فى إضافة للسيناريست مصطفى محرم لنص على سالم المسرحي. ويتقارب شوقي المعلم والقصاص مع حمدي الملحن. يجمعهما خذلان العاصمة لرؤيتهما وكذلك تحقق كل منهما على الجبهة ... كنا نقول الجبهة ! ويسمح إيقاع الفيلم بإنعام النظر فى أحجام اللقطات وتتابعها ودلالاتهما الدرامية والشعرية.فشتان بين تلك الحركة الدائرية المنفتحة على الجنود، وأخرى من الخارج إلى الداخل تحيط بحمدي فى مكتب قيادة مؤثرة فى الإذاعة المصرية قبل يونيو 67، وتجمعه بمغنية مشهورة وكلمات رديئة، والكاميرا تلف وتضيّق الخناق حوله، ويكاد مقعد بحذاه يغلق مجال الرؤية. ولأن العلاقة التبادلية فى منح الحياة أو الخلود بين الجندي والوطن تتجسد فى صورة صوتية بالأساس هي الضحكة، فإن شريط الصوت يكاد يقود العمل. الصمت فى ذاته، والصمت فى مواجهة صفير الريح وصوت الصحراء والترقب. يتشكل الإيقاع حواراً أو أغنيةً أو طلقات. حتى فكرة إلقاء القنبلة على العدو جاءت لتخرس صوته الذي لا يطيقه، وأخيراً صمت الموت الذي يكاد يحدد هو وصوت طلعات العدو مراحل التطور الدرامي للفيلم. شيء بدائي فى الموقف، فى الموقع، فى السلاح، فى الصراع الأزلي مع عدو وموت ... يعيش ويبقى ويتخطى أربعة وأربعين عاماً منذ إنتاجه عام 1972م. سألت مذيعة شابة المخرج على عبد الخالق ساعتها كيف أنه لم يختار فيلماً يمت أكثر لاهتمامات الناس، فأجاب بثبات وأدب – يُحسد عليه – فيما معناه ‘ أظن أنني اخترت فيلماً فى صميم اهتمامات الناس !'. كأنها كتيبة سينمائية راودها خلود يقارب خلود الشهيد فقدمت وثيقة سينمائية كتبتها على حبة أعينها تمثيلاً وكتابةً وصوتاً وصورة. وثيقة غير مملاة ولا يجوز استنساخها. فى مطلع الفيلم يأتي الإهداء للشهداء ممهوراً باسم عبد المجيد أبو اليزيد عن أسرة الفيلم. حاولت أن أعلم شيئاً عن عبد المجيد أبو اليزيد. حتى الآن لم أتوصل إلى إفادة، فاحتسبته جندياً مجهولاً فى الكتيبة.