من الحقائق المعروفة عقلاً وواقعاً أن الإيمان بأمر من الأمور يأتي ثمرة لقناعة تتولد من خلال البحث والاستدلال. والاستقراء والاختبار. والمعاناة والاستعداد الفطري. وأن موطن هذا الإيمان هو القلب- بالتعبير الإسلامي- المحل المنوط به الإدراك وتحقق القناعة. وهو أمر داخلي مغيب. والاستدلال عليه إنما يكون برصد سلوك صاحبه وليس السلوك الظاهري- علي كل حال- دليلاً كافياً علي توفير القناعة. فقد ينافق إنسان فيظهر خلاف ما يبطن لتحقيق مآرب. وقد يتملق آخر الشعور الإسلامي ليخفي حقيقة أمره في مجتمع المسلمين. ويبقي الإيمان مقره القلب ولا سلطان لأحد عليه إلا سلطان الدليل. وغياب هذه الحقيقة عن الساحات الفكرية ووسائل العمل والظن بأن الإرهاب الفكري. أو الإغراء المادي. أو تحقيق المصالح يصنع مؤمنين بالمبادئ. مضحين في سبيلها. وهم خادع لأنه يزيد في مساحة المنافقين والانتهازيين الذين لا يريدون بالأمة خيراً. ومن التوهم أيضاً. الظن بأن العقائد تنشأ بقرار رسمي. وأن الإيمان لابد له من إذن السلطان ".. آمنتم به قبل أن آذن لكم.." الأعراف: 123. لذلك قال الله تعالي في سورة البقرة: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.." البقرة: .256 وخاطب الرسول القدوة "صلي الله عليه وسلم" بقوله: "لست عليهم بمصيطر" الغاشية: .22 وقوله تعالي: "أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين" يونس: .99 وحدد مهمته بالبلاغ المبين فقال تعالي: "ما علي الرسول إلا البلاغ" المائدة: .99 وبين أن طريقة هذا البلاغ. وتحقيق القناعة للناس إنما يكون بالدعوة إلي الله تعالي بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. لأن الله وحده هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. وأمر الثواب والعقاب مرده إلي الله في نهاية رحلة الحياة. وهذه قضية لا مجال فيها لجدال أو مناقشة. وغيابها عن التصور لا يعدوا أن يكون جهلاً بها أو سوء فهم لها. لكن المشكلة اليوم التي لابد من تحرير القول فيها تطرح وجهاً آخر للقضية. ذلك أن الإسلام ابتداءً هو التزام وليس إلزاماً. والإيمان اختيار وليس إكراهاً أو إجباراً والسؤال الذي لابد من حسم الإجابة عنه: هل ينسحب هذا الاختيار علي كل جزئية وتكليف وقضاء وتشريع في الإسلام؟ أو بمعني آخر: هل يعد اقتناع الإنسان بالإسلام وإيمانه به. وارتحاله إليه. والتزامه به يمكنه أن يقوم بعملية لاختيار والانتقاء من التكاليف الإسلامية الثابتة تحت شعار: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". أم أن الاختيار. إنما يتحدد ابتداءً في أصل القبول بالإسلام أو الرفض له. وبعد ذلك تأتي التكاليف الشرعية ثمرة ونتيجة طبيعية ومنطقية للاختيار الأول. ولسيت هي بحد ذاتها ساحة للاختيار أصلاً؟ إذ لا يمكن عقلاً أن أؤمن بأمر ثم أتنكر للنتائج التي ترتب علي إيماني به. وأتوهم أن لي حق الانتقاء والاختيار حيث لا إكراه في الدين. لغير المسلمين حتي الاختيار. وله عدم الإكراه ابتداءً فإذا التزم بالإسلام ألزم بالنتائج جميعاً التي ترتب علي التزامه الأول. فالإسلام يبدأ التزاماً. وينتهي إلزاماً بمعني الإلزام بالنتائج المترتبة علي الاختيار الأول وإلا كيف يمكن أن نتصور أن الإسلام يبني أمه. ويقيم مجتمعاً. ويحاسب خارجاً. ويشرع قانوناً ولا يضع لذلك مؤيداته المادية والمعنوية. من هنا فإن قول الله تعالي في سورة الأحزاب: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" الأحزاب: .36 الذي يحسم الإجابة لا يتعارض مع قوله تعالي: "لا إكراه في الدين". فقبول قضاء الله وقضاء الرسول "صلي الله عليه وسلم" ثمرة للإيمان الأول. لذلك جاء قوله تعالي: "لمؤمن ولا مؤمنة" فالإسلام بالنسبة للمسلم الذي اعتنق الإسلام وآمن به هو وجود لا خيار فيه. وفرصة الحرية هنا بالنسبة للمسلم إنما تكون بالتحقيق وبذل الجهد والتحري في إثبات صحة التكليف الإسلامي. فإذا ثبت أنه تكليف من الله أو من الرسول "صلي الله عليه وسلم" فلا خيار بعد ذلك للمسلم. "إن كان قد قال. فقد صدق. إنما نأتمنه علي خبر السماء". والذي نريد أن نخلص إليه أن الحل الإسلامي اليوم بالنسبة للمشكلات الكثيرة التي نعاني منها لا يشكل اختياراً للمسلم وما يطرح علي الساحة الفكرية اليوم من المغالطات لون من التقليل الثقافي لابد من انتشال المسلمين منه. فكلما طولب المسلمون بضرورة الالتزام بالإسلام. والتخلق بأخلاقه والاحتكام إلي شرعه ارتفعت الأصوات إلي هنا وهناك تردد قوله تعالي "لا إكراه في الدين"!!