تغيرت أشياء كثيرة في حياتنا خلال وبعد ثورة 52 يناير التي لم يتوقع أحد أن تحقق خلال 81 يوما ماعجزنا نحن طوال ثلاثين عاما عن تحقيقه، ونحن هنا تشمل كل الأجيال التي رضيت بالصمت علي كل ماجري لنا وعلينا من جانب نظام لم يسلم من أذاه بشر ولاحجر. لكننا وطوال هذه الفترة التي أسميت انتقالية عانينا الكثير سواء من الصراعات السياسية والفكرية والانفلات الذي طال كل شيء من أمن واقتصاد وأخلاق ،لأن مفهوم الحرية لدي الكثيرين منا لم ينضبط بحركة المجموع، فكلٌ رأي أنه حر دون أن يدرك جيدا حدود تلك الحرية وآثارها السلبية علي غيره، فقطع الطرق ومسارات السكك الحديدية والحصار والتعدي علي المسئولين أبرز تجليات تلك الحرية المنفلتة ثم ذلك الانفلات الإعلامي الذي شاهدناه وتابعناه ولازلنا علي الفضائيات والصحف الممولة من رجال أعمال النظام السابق لم يسلم منه مسئول وحتي أعلي منصب بالدولة وفي انفلات الشارع المستمر رأينا كيف عبث البعض بأمن واستقرار البلد من الباعة الجائلين وسائقي الميكروباص وفوضي المرور ومخالفات المباني الصارخة وسقوط الضحايا المتزايد نتيجة هذه الفوضي والتعديات علي الأراضي الزراعية،وفي كل هذه الصور بث لثقافة الفوضي ورؤية كل مخالف ومتجاوز لمفهوم الحرية علي طريقته الخاصة بأن ذلك من حقه طالما أنه لايوجد من يراقبه أو يحاسبه أو يقول له توقف فأجهزة الرقابة والأمن غائبة والقوانين لاتجد من ينفذها!! وأتساءل هنا: هل هذا هو التغيير الذي جاءت من أجله الثورة وسقط في سبيل تحقيق أهدافها المئات من الشهداء ولماذا كنا أكثر انضباطا واستقرارا مع نظام استبدادي؟! قد يقول البعض إننا في مرحلة نسعي خلالها لتشكيل وإعادة صياغة لدولة ديمقراطية تتساوي فيها الحقوق والالتزامات ويتمتع الجميع بحريته ومن طبيعة تلك المراحل الانتقالية في حياة الشعوب أن تكون صعبة ومعقدة ومضطربة، لكن الحرية في مفهومها الصحيح هي أن تنطلق طاقاتنا الإبداعية الخلاقة نحو مزيد من العطاء والإنتاج لنبني وطننا الذي حرمنا طويلا أن نكون أحرارا فيه، وأن نعيش مثل باقي شعوب الأرض متساوين في الحقوق ومتمتعين بخيرات هذا البلد وبتكافؤ فرص للجميع. الحرية التي مارسناها طوال الفترة الماضية هي أن نتوقف عن الإنتاج وأن نعطل حركته بحثا عن حقوقنا التي أضاعها النظام السابق فلم نجن سوي المزيد من الفوضي في حياتنا وأصبح اقتصادنا علي حافة الانهيار وصار الكثيرون يبحثون عن حقوقهم دون أن يفكروا في المزيد من الإنتاج الذي سوف يحقق الكثير من مطالبهم ربما مع قليل وليس الكثير من الصبر،اعتصامات إاضرابات ووقفات احتجاجية وتعطيل دورات العمل ويجني المجموع في النهاية ثمن تلك الأفعال، وصاحب تلك الفترة اضطراب غير مسبوق في العملية السياسية ولجوء البعض إلي ساحات القضاء التي تحولت لأداة لممارسة القانون في زمن ثورة وتغيير، وبدلا من أن تكون المحاكم ساحة للعدالة تحولت إلي ميدان حرب وانتقام وتصفية حسابات بين الفرقاء في المشهد السياسي، فمجلس الشعب الذي جاء بانتخابات شهد العالم بنزاهتها صار في مهب الريح والجمعية التأسيسية الأولي حكم ببطلانها وتنتظر الثانية حكما آخر مماثلا سيحول دون إتمام مهمتها في وضع دستور للبلاد يعبر بنا هذه المرحلة الصعبة والمعقدة لنظل ندور في متاهة لا نعرف متي وكيف نخرج منها !! ماحدث خلال العام ونصف العام أن بعضنا أخرجت الثورة أسوأ مافيه. والكارثة أنهم يسمون أنفسهم صفوة أو نخبة المجتمع مابين مفكر وناشط سياسي وفقيه دستوري رغم أنهم استيقظوا من رقدتهم وصمتهم الذي طال في سنوات النظام القديم ليتحدثوا عن حقوق الشعب والقانون والدستور، وكأن الله خلقهم دون غيرهم من البشر ليفكروا ويقرروا نيابة عنهم، مارس هؤلاء دورين الأول علني أمام الكاميرات وخلف الميكروفونات ثوارا بلا نهاية أو فاصل أما الدور الأخطر فهو التفافهم سرا حول من أدار شئون البلاد ليقدموا أفكارهم واستشاراتهم التي قادتنا إلي هذا المنعطف الخطير بفضل تلك الإسهامات، وكل ماحصلنا عليه حتي الآن رئيس للدولة يسعي لانتزاع صلاحياته وبرلمان معطل ودستور في علم الغيب وأوضاع اقتصادية لانحسد عليها وبيروقراطية تسعي لتعطيل أي تقدم في طريق إنهاء منظومة الفساد الإداري، فالمحليات لاتزال تمارس دورها القديم عبر قياداتها المرتبطة بالنظام السابق وأجهزة الأمن تتحرك بالتصوير البطيء تارة وبسرعة مفتعلة تارة أخري. نحن أمام حالة نفور وكراهية للتغيير لأنه عند البعض يضر بمصالحه فيقاومه بقوة وعند البعض الآخر يحدث له ارتباكا واضطرابا في حياته ويشعر أن حياته كانت أفضل حتي في أسوأ أحواله ،من هنا فإن مقاومة التغيير تشكل عائقا حقيقيا أمام ثورة من أهم أهدافها تغيير أوضاع المجتمع والانتقال لدولة ديمقراطية حديثة يشعر فيها المواطن أنه ليس مجرد رقم يمكن شطبه أو استبعاده وتجاوزه ! وضع الدستور نقطة انطلاق حقيقية نحو ضبط إيقاع مؤسسات الدولة والحدود الفاصلة بينها ومعرفة كل مواطن لحقوقه وواجباته ووجود حكومة قادرة وقائمة علي خدمة الشعب ،وعودة البرلمان لممارسة دوره في الرقابة والتشريع وقضاء يتمتع باستقلال كامل يحفظ الحقوق ويرد المظالم، وصحافة وإعلام يلتزم الصدق والمهنية وليس بنشرالشائعات والتخوين والإساءة بكافة أشكالها للآخرين ،ولكن يبقي دور المواطن مطلوبا في أن يساهم في تغيير حياته عبر مشاركته في ذلك ولابد أن نسعي لتغيير فهمنا للحرية وأنها ليست تعبيرا وتجسيدا للفوضي التي تصيبنا جميعا بالضرر وأن نتكاتف من أجل أن نعيد لبلدنا مافقده طويلا من علامات وملامح الحياة.