أحمد إبراهىم (كاتب إماراتى) صباح اليوم أولادي رموا الأقلام بالحقيبة في الهواء مطلقين سيقانهم للرياح مغرّدين: "هآآآآي .. هآآآآآآو خلّصنا الامتحانات، ماما ودّينا مكان، بابا خلينا نسافر"..! لم تعد الحقيبة المدرسية لوحدها في الهواء، جنبها تتطاير حقائب أخري: وزارية، دبلوماسية، قضائية للوزراء والقضاة، والمحامين ورجال أعمال .. الكلُّ استبدل الحقائب المتأبّطة أثقالها، بتذاكر وجوازات سفر خفيفة بين الخُنصر والإبهام نحو المطارات .. لكن إلي أين هذا الصيف؟. دمشق وبغداد وبيروت والقاهرة إلي تونس وصنعاء لم تعد مصائفها بالمكياج والمساحيق، ولاشواطئها بالديباج والحُلي والحُلل .. مصّيفو بلاد الشام وجدوها هذا العام شريعة الغاب من الريف للحضر بأسد لم يكن لوحده، بل ومعه النمور والكلاب والذئاب علي الشعب، قس عليها عواصم الربيع العربي (منهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا). صيفنا هذا العام أراضيه بلا تراب فوق جثامين بلا عظام، فلنتركها الأراضي لمن لايشبع منها دون أن يُدفن فيها، نتركها لدباباته ومدرّعاته وصواريخه، ونتجه الي مصايف لم ترتدها أشرعتنا بعد، إلي كوكب الحياة بلا موت، الي ذلك الإنسان الذي لايموت.! من باع كل ما في بيته من عفش وأثاث للرغيف ولم يبق إلا هو وآخر رغيف، أيبيع نفسه للرغيف أم يُضحّي الرغيف بالرغيف، ثم يذهب إلي أين.؟! .. هذا السؤال المبهم، أغناني عن التفكير فيمن يعاني من الرغيف آمنا، عن التفكير فيمن يغوص البذخ والثراء الفاحش ويتعطش للأمن. كان يتقلّب علي صفائح الذهب والفضة، وبات في ليلة وضحاها يستنجد بالشجر والحجر لرمق الحياة، عواصم الربيع العربي غير جائعة لشرائح الرغيف، وظمآنة لقطرات من الأمن والأمان. أين نذهب هذا الصيف بحثا عن الحياة وعما يُطيل الحياة؟ خاصة بعد نجاح الاختبارات العُشبية بجبال الهيمالايا والصين ونيبال، وأخري بمختبرات علمية للولايات المتحدة وألمانيا الاتحادية، وأخبار شبه مؤكدة عن قرب إنتاجها (الخلطة السحرية) التي يقال عنها إنها ستطيل الأعمار، وإنها اجتازت اختباراتها علي حيوانات ما قبل الإنسان من الفئران والضفادع بنجاح، وإنها الحُقنة السحرية الخضراء، (ماء الحياة) إن صح التعبير، التي ستغزو الأسواق قريبا في سباق مع الحبة الزرقاء المسبوقة (الفياجرا). سباق الخضراء بالزرقاء هو كالنمر بالسلحفاة، والتقارير تؤكد أن الإنسان بمقدوره أن يطيل عمره قدرما يشاء، (ماء الحياة) وشيكة التعليب والتدشين، لكن اليهود والنصاري والبوذيون الذين نكفّرهم عادة، قد لايصدّرونها لعواصمنا بحجّة أنها عواصم تجيد صناعة الموت قد تُحرّم دخولها ماء الحياة.؟ أنذهب نحن إلي تلك العواصم إذن إن لم نجدها في صيدلياتنا؟ خاصة إذا تحقق ما يقال عن جرعاتها بأنها سترفع معدل الأعمار من سبع إلي عشر سنوات في المرحلة الأولي، ومن عشرين إلي خمس وثلاثين في المرحلة الثانية، ثم إلي ما لانهاية، أو قدر ما يريدها الإنسان علي كوكب الأرض.! مزاعم يجب ألا نتهمها بخرافة، لا نرفسها "شرك شرك" ولاننكرها قبل الأوان، فقد أنكرنا قبلها زعم (أبولو 11) أنه هبط بالإنسان علي سطح القمر بأنه شرك وخرافة، ثم غيرنا الفتوي بلا مانع من الاعتراف أنه كان بإرادة الخالق الذي يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، كنا بالأمس القريب والبعيد نرفض التلفاز والمذياع، وقبلهما نحطم الساعات وأجهزة اللاسلكي ولازلنا نحطم الكاميرات في أفغانستان بفتاوي أنها مسكونة بالشيطان، وفي إيران شعارات الموت لأمريكا في الشوارع جهرا، وخلفها في الدهاليز ليلا يبحثون عن السوق السوداء لقطع غيار الطائرات الأمريكية وسفنها وبواخرها ومركباتها. مهما نلعن شياطين الجن وتضليلاتها، علينا أن نتصالح قليلا مع شياطين الإنس وتقنياتها، قد يأتينا الغد القريب أو البعيد بمفاجآت نكفّرها في الأضواء ونبحث عنها في الظلام، فلنؤمن أن كل شيء ممكن بإرادة الخالق الذي خلق الإنسان فأحس خلقه، ووهبه أشرف المخلوقات (العقل)، وعلّمه العلم والبيان. وتحضرني بالمناسبة أسطورة الملك (إسكندر)، لا أجزم ولا أدري إن كان هو الإسكندر المقدوني أم غيره، أراد يوما (ماء الحياة) بما أوتي من قوة وسلطان، فحوطه مستشاروه المخلصون: (توكل ياصاحب الجلالة علي بركة الله، احمل في يدك سمكة ميتة مجففة، ابحر بها ظلمات البحار السبع، تجد في إحداها (ماء الحياة)، نبعا عذبا لا هواء فوقه ولاسماء، لا شمس ولانجوم ولاقمر، لكن عليك أن تقطع بنفسك ياجلالة الإسكندر تلك البحار السبع بظلماتها لتنتهي علي ماء الحياة، بياضها لبنٌ وطعمها عسل، قطراتها كنجوم السماء وداناتها بلمعان اللآلئ، اذهب ياإسكندر باشا وفي يدك سمكة مجفّفة، أغطّس رأسها كل نبع وبئر، فإذا انزلقت السمكة الميتة من يدك حية مترفرفة في الما، فاعلم أنك وجدتها، اشرب منها ماتشاء، فإنك ستعيش إلي ما لا تشاء.! لاأدري الإسكندرالأقدوني هذا أو الأسطوري إن كان شرب من ذلك الماء أم لم يشرب، إذ لم نجد اسمه بين السلاطين الأحياء، لكن القصة كانت ترويها لنا الأطفال يوما جدتي المرحومة في بيوتنا العُشبية، بأن (ماءالحياة) تلك لم يصلها الإسكندر، بينما وصلها أحد مرافقيه الصغار، وهو الآن حي يرزق وهو النبي خضر عليه السلام (...) نحن لن نصل إلي ماء الحياة فلا نريدها ...(العنب طعمه حامضٌ لثعلب لم يبلغ أغصانها)... فلنذهب هذا الصيف إلي حيث نستعيد فيه الوجاهة العربية المفقودة، لكن متي وأين افتقدناها تلك (الوجاهة.؟) ومن سلبها منا عنوة لنستعيدها منه بالذات جهرا.؟ .. لعلنا افتقدناها في غرفة الولادة بجوار فكرة أنجبت دون الإجهاض، لم تتبخر تلك الفكرة في المخاض فلن تتلاشي في الأحضان بين القابلات والمرضعات والمربيات، بل وتزدهر نجمتها بين بابا الفاتيكان وشيخ الصولجان، ومهديُّ آخر الزمان بالتخصيب تلو التخصيب.! الصيف العربي أينما قادنا هذا العام فلُنصقله بالفكر السليم للجسم السليم، ولنُروّضه بالعقل السليم دون فتنة أو فساد في الأرض: (فكرةٌ فبذرة، فشجرةٌ وارفة الظلال يانعة الثمار) .. وهي الحياة تلو الحياة لربيع العرب دون الخريف في حديقة ذلك البُستانيُّ الذي لايموت.