هذه خواطر كتبها أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله بالمصيف بالأسكندرية ( بمجلة الرسالة ) عدد 112 بتاريخ 4 جمادي الثانية 1354 / 3 سبتمبر 1935م * * * في الربيع الأزرق خواطر مرسلة مصطفى صادق الرافعي - ما أجملَ الأرضَ على حاشيةِ الأزرقَيْن البحر والسماء ؛ يكادُ الجالسُ هنا يظنُّ نفسَه مرسومًا في صورة إلهية . - نظرتُ إلى هذا البحر العظيم بعيني طفلِ يتخيل أن البحر قد ملءَ بالأمس ، وأن السماءَ كانت إناءً له ، فانكفأ الإناءُ فاندفق البحر ؛ وتَسرَّحْتُ مع هذا الخيال الطفليَّ الصغير فكأنما نالني رشاشٌ من الإناء ... - إننا لن ندركَ رَوعةَ الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفسُ قريبةً من طفولتها ، ومرَح الطفولة ، ولعبها ، وهَذَيانها * * * - تبدو لك السماءُ على البحر أعظمَ مما هي ، كما لو كنتَ تنظر إليها من سماءِ أخرى لا من الأرض * * * - إذا أنا سافرتُ فجئتُ إلى البحر ، أو نزلتُ بالصحراء ، أو حللتُ بالجبل ؛ شعرتُ أولَ وهلَةٍ من دهشة السرور بما كنت أشعر بمثله لو أن الجبلَ أو الصحراءَ أو البحرَ قد سافرت هي وجاءت إليّ . * * * - في جمال النفس يكون كلُّ شيء جميلا إذ تُلقى النفسُ عليه من ألوانها ، فتنقلب الدارُ الصغيرةُ قصرًا لأنها في سَعَة النفس لا في مساحتها ، وتعرفُ لنور النهار عذوبةً كعذوبة الماء على الظمأ ، ويظهر الليل كأنه معرضُ جواهر أقيم للحُور العِين في السماوات ، ويبدو الفجرُ بألوانه وأنواره ونسماتَه كأنه جنةٌ سابحة في الهواء . - في جمال النفس ترى الجمالَ ضرورةً من ضرورات الخليفة ، وي كأن الله أمرَ العالَم ألا يَعبسَ القلب المبتسم . * * * - أيامُ المَصِيف هي الأيامُ التي ينطلق فيها الإنسانُ الطبيعيُّ المحبوسُ في الإنسان ؛ فيرتدُّ إلى دهرِه الأول دهر الغابات والبحار والجبال . - إن لم تكن أيامُ المصيف بمثل هذا المعنى ، لم يكن فيها معنى . * * * - ليست اللذة في الراحة ولا الفراغ ، ولكنها في التعب والكَدْح والمشقة حين تتحولُ أيامًا إلى راحة وفراغ . - لا تتمُّ فائدةُ الانتقال من بلد إلى بلد ، إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور ؛ فإذا سافر معك الهمُّ فأنت مقيمٌ لم تَبرحْ * * * - الحياةُ في المصيف تثبت للإنسان أنها إنما تكونُ حيث لا يُحْفَلُ بها كثيرًا . * * * - يشعر المرءُ في المُدُن أنه بين آثار الإنسانِ وأعماله ، فهو هناك في رُوح العَناء والكَدْح والنزاع ؛ أما في الطبيعة فيحُسُّ أنه بين الجمال والعجائب الآلهية ، فهو هنا في رُوح اللذة والسرور والجلال . * * * - إذا كنت في أيام الطبيعة فاجعل فكرك خاليًا وفَرَّغْه للنَّبت والشجر ، والحجَر والمَدَر ، والطير والحيوان ، والزهر والعُشْب ، والماءِ والسماء ، ونورِ النهار وظلام الليل ، حينئذ يفتح لك العالَم بآياته ويقول : ادخل . * * * - لطْفُ الجمال صورةٌ أخرى من عظَمَة الجمال ، عرفتُ ذلك حينما أبصرتُ قطرةً من الماء تلمعُ في غصن ، فخيَّل إلىّ أن لها عظمة البحر لو صَغُر فعُلِّق على ورقة . * * * - في لحظة من لحظات الجسد الروحانية ، حين يفورُ شِعرُ الجمال في الدم – أطلتُ النظرَ إلى وردة في غصنها زاهيةٍ ، عطرة ، متأنقة ، متأنثة ، فكدت أقول لها : أنتِ أيتها المرأة ، أنت يا فلانة .. * * * - أليس عجيبًا أن كل إنسان يرى في الأرض بعض الأمكنة كأنها أمكنةٌ للروح خاصة ؛ فهل يدلُ هذا على شيء إلا أن خيالَ الجنة منذ آدمَ وحوَّاء ، لا يزال يعمل في النفس الإنسانية ؟ * * * - الحياةُ في المدينة كشرب الماء في كوب من الخزف ، والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البلُّور الساطع ؛ ذاك يحتوى الماءَ وهذا يحتويه ، ويُبدى جمالَه للعين . * * * - واأسفاه ، هذه هي الحقيقة : إن دقَّةَ الفهم للحياة تُفسدها على صاحبها كدقة الفهم للحب ؛ وإن العقل الصغير في فهمه للحب والحياة ، هو العقلُ الكاملُ في التذاذه بهما . وا أسفاه هذه هي الحقيقة . * * * - في هذه الأيام الطبيعية التي يجعلها المصيفُ أيامَ سرور ونسيان يشعرُ كلُّ إنسان أنه يستطيع أن يقول للدنيا كلمةَ هزلٍ ودُعابة .. * * * - من لم يرزق الفكرَ العاشقَ لم ير أشياءَ الطبيعة إلا في أسمائها وشِياتِها ، دون حقائقها ومعانيها ؛ كالرجل إذا لم يعشق رأى النساء كلَّهن سواءً ؛ فإذا عشق رأى فيهن نساءً غير من عرَف ، وأصبحن عنده أدلةً على صفات الجمال الذي في قلبه . * * * - تقوم دنيا الرزق بما تحتاجُه الحياة ؛ أما دنيا الصيف فقائمةٌ بما تلذُّه الحياة ؛ وهذا هو الذي يغير الطبيعة بغير الطبيعة ويجعلُ الجوَّ نفسه جوَّ مائدة ظُرفاء وظريفات .. * * * - تعمل أيامُ المصيف بعد انقضائها عملاً كبيرًا ، هو إدخالُ بعض الشعر في حقائق الحياة . * * * - هذه السماءُ فوقنا في كل مكان ، غير أن العجيبَ أن أكثر الناس يرحلون إلى المصايف ليروا أشياءَ منها السماء .. * * * - إذا استقبلتَ العالم بالنفس الواسعة رأيتَ حقائقَ السرور تزيد وتتسع ، وحقائق الهموم تصغُرُ وتضيق ، وأدركتَ أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيَّقُ لا هي . * * * - في الساعة التاسعة أذهبُ إلى عملي ، وفي العاشرة أعملُ كيت ، وفي الحادية عشرةَ أعملُ كيتَ وكيت ؛ وهنا في المصيف تفقد التاسعةُ وأخواتُها معانيَها الزمنيةَ التي كانت تضعها الأيامُ فيها ، وتستبدلُ منها المعانيَ التي تضعها فيها النفسُ الحرة . - هذه هي الطريقة التي تُصنع بها السعادةُ أحيانًا ؛ وهي طريقة لا يقدر عليها أحدٌ في الدنيا كصغار الأطفال . * * * - إذا تلاقى الناسُ في مكان على حالة متشابهة من السرور وتوهمه والفكرة فيه ؛ وكان هذا المكانُ مُعَبدًا بطبيعته الجميلة لنسيان الحياة ومكارهها – فتلك هي الرواية وممثلوها ومسرحها ، أما الموضوعُ فالسخريةُ من إنسان المدنية ومدنية الإنسان . * * * - ما أصدقَ ما قالوه : إن المرئيَّ في الرائيَّ . مرضتُ مدةً في المصيف ، فانقلبت الطبيعةُ العروسُ التي كانت تزينُ كل يوم إلى طبيعة عجوز تذهب كل يوم إلى الطبيب .. شاطئ سيدي بشر ( اسكندرية ) مصطفى الرافعي