إعلان خبر وفاة البابا زلزل مشاعر كثير من المصريين وكأنها مفاجأة.. مع أن تاريخ معاناته سنوات من السرطان والفشل الكلوي معلنة وجسده النحيل ينبئ منذ أعوام باقتراب الرحيل.. وكنت أتصور سيناريو آخر مختلفا للحظة إعلان انتقال البابا من العالم.. سيناريو لا يتضمن مشاهد العويل والنحيب والانهيار.. لأن البابا انسان مسئول أدي مهمته في التعليم والرعاية والقيادة بأمانة لمدة أربعين سنة متصلة حتي وهن منه الجسد.. وحانت ساعة انطلاق روحه إلي خالقها ليتسلم الدفة قائد آخر.. وأتعجب من عمق الحزن وحالة الشعور بالضياع لأني توقعت العكس.. توقعت أن يسود إحساس بالشكر لله لأنه منحنا راعيا له صفات الأب المحب الرحيم الحنون الحازم المتعلم المثقف الحكيم العادل.. ونطلب أن يمنحنا بديلا عفيا له نفس الصفات لننعم جميعا كمصريين بحياة المحبة والسلام في وطننا.. فهل العيب فينا لأننا تمسكنا بدور الأطفال، أم فيه لأنه بالغ في حبنا وحمايتنا وتوجيهنا في كل تفاصيل الحياة، وإن الحزن العميق الذي أدهشني هو مشكلة المصريين عموما في التعلق برقبة قائد يسيرون خلفه قطيعا كسولا آمنا، ضامنا الحماية والسلامة والطعام والمأوي.. يأخذ هو القرارات الهامة ويتحمل مسئوليتها ونخرج احنا كالشعرة من العجين، بدعوي طاعة الأب واحترام القائد.. ننام في العسل لأن بابا صاحي .. ولو هبت ريح وأزعجتنا نمسك في رقبته ونطالبه بتعويض خسائرنا. في كل مرة أتابع لقاءه الأسبوعي بالشعب، والذي امتد من عام 1967 وحتي الأربعاء قبل الماضي دون انقطاع إلا في فترات علاجه وفترة عزل الرئيس السادات له، تتضاعف دهشتي.. الأسئلة المطروحة لا تتغير وكأن الشعب لا يريد التخرج من الحضانة .. وأسأل نفسي كيف لم يمل المعلم.. هل هو أب يستمتع بطفولة أبنائه ولا يريد لهم أن ينضجوا ويستقلوا ويفارقوه.. أم أنهم أطفال مدللون.. حتي خرجت مسيرة ماسبيرو تندد بمذبحة كنيسة القديسين تطالب بحقها في معرفة الحقيقة، ولم نميز مابين المسيحي والمسلم إلا من أسماء القتلي والجرحي.. وكان يوما حزينا آخر للوطن لكنه بداية الخروج من الشرنقة وخلع رداء السلبية، وجرأة مواجهة الحياة، وانتزاع الحرية و الحقوق الإنسانية.. وهذا نتاج التعليم الجيد لهذا الأب.. لذلك توقعت أن تكون لحظة انتقال البابا شنوده مغلفة بالحزن السامي الممتن، حزن فراق الصديق الغالي الأمين الذي أثري حياتنا، وليس بالانهيار والنحيب..لأنه آن الأوان له ليستريح ويتحرر، وللمصريين الذين أحبوه أن يطبقوا تعاليمه، ويهتدوا بخبراته ليتحقق الهدف الذي سعي إليه منذ اختار أن يتوحد سنوات في عزلة بالصحراء، ليتأمل في معجزة الخلق وتباين المخلوقات ومحبة الخالق، وقيمة الإنسان وقدراته . ولم يعتزل للتأمل، إلا بعد أن تشبع بالعلم ليجادل نفسه وعقله ويستخلص الحقائق ويختبرها.. درس التاريخ الفرعوني والقبطي والإسلامي والحديث، ودرس الأدب وحفظ الشعر ومدارسه ثم درس اللاهوت .. وبعد التأمل سنوات في الصحراء وصل إلي قناعة أن إرادة الله هي أن تسود المحبة علي الأرض وأن يعم السلام والخير علي كل البشر .. وأن الله محبة. وعاد بمنهج بسيط لتعليم المحبة، وخريطة تفصيلية للطريق إلي الهدف .. وهي الخدمة بتواضع وفرح، والرحمة ومساعدة المحتاج والمسكين بلا مقابل .. لأن عائد هذه الخدمة هو تمتع الإنسان بنعمة بهجة العطاء ونقاء النفس وسعادة تبادل المحبة . وجاهد البابا شنودة ليكون أبا ومعلما صالحا للجميع بخفة الدم وليس بالعصا والعقاب والإرهاب، ونجح في أن يقنعنا أن الله موجود كل لحظة في كل مكان، وعلمنا كيف نري الله في تفاصيل حياتنا وكيف نستقبل محبته لنا ونردها إليه.. وبالمناسبة كلمة "البابا" أصلها لاتيني، وهو لقب نشأ في الإسكندرية أولا ثم انتقل إلي روما .. وتستخدم للدلالة علي المحبة الخاصة الخالصة.. محبة الأب الوالد لكل أبنائه دون تمييز، العاق والصالح والخائن والعاجز والمتمرد والبسيط والذكي، وهو عبء يحني الظهور العفية . ووضع البابا شنودة للمصريين تقاليد محبة تميزت بها مصر، ومنها دعوة كبار المسئولين والمشايخ والأدباء والفنانين علي مائدة إفطار رمضانية منذ عام 86 بانتظام.. والمشاركة في أحزان وأفراح الوطن.. والتضامن مع المواقف المصرية الوطنية المختلفة، ومنها تحريم زيارة القدس طالما أن المقدسات المسيحية والإسلامية تحت الاحتلال . واعترض علي اتفاقية السلام.. لأن السادات بعد نصر اكتوبر 1973 أزاح مراكز القوي الناصرية وأصبح ينفرد بالقرار.. ثم أطلق الجماعات والتيار الإسلامي دون قيد في الجامعات وفي الشارع السياسي المصري لمحاربة التيار اليساري والشيوعي.. وامتلك البابا شجاعة.. رفض الذهاب مع السادات في زيارته لإسرائيل عام 1977 فبدأت الدولة تغذي العنف تجاه الاقباط واشتعلت الفتنة الطائفية في الصعيد.. وثار أقباط المهجر في أمريكا واستقبلوه بالمظاهرات المناهضة لاضطهاد الأقباط في مصر .. فأرسل يستدعي البابا لتهدئتهم فرفض الذهاب بل وأعلن إلغاء الاحتفال بالعيد وعدم استقبال المسئولين لالتقاط صور التهنئة المزيفة .. غضب السادات من تحدي البابا والتقي بالمجمع المقدس يعاتبه علي سلوك أقباط المهجر، فأجابه البابا أنهم في الغرب مواطنون أحرار يعيشون في جو من الحرية الكاملة ،ممكن يشتموا رئيس الدولة في الجرايد والمظاهرات ولا أحد يحاسبهم، لكن وضعنا في مصر مختلف .. فاشتعل غضب السادات وجمع مجلس الشعب وأصدر القرار التاريخي الغاضب رقم 490 لسنة 81 بعزل البابا والتحفظ علي 1531 شخصية عامة معارضة.. لم يعتقل السادات البابا إنما حدد إقامته في الدير بوادي النطرون، وبعد اغتيال تنظيم الجهاد للسادات، جاء مبارك ليفرج عن الجميع . لكن الفتنة الطائفية التي زرعها السادات لم تمت .. وتحولت إلي أسلوب أمني جاهز ومضمون لحماية مصالح كل نظام حاكم .. وقمع حرية وكرامة الشعب المصري كله حتي اليوم !!. وأعتقد أن البابا أخذ كفايته في الحياة من آلام مشاهد جثث الشهداء والضحايا المصريين .. وان دوره كرسول محبة وسلام قد انتهي، لأن الرسالة وصلت واستوعبناها، لكن الحرب بالمحبة تحتاج فرسانا من الأساطير. بكي البابا علي الهواء في محاضرة الأربعاء التالي لمذبحة ماسبيرو .. وقال أعزيكم في استشهاد 24 من أبنائنا العزل الذين قتلوا وهم لا يحملون سلاحا مطلقا حسب تعاليم دينهم، الذي يمنعهم إطلاقا عن العنف ..والذي أعلن تقرير الطب الشرعي أن ثلثيهم ماتوا بالرصاص، والثلث مات مدهوسا بالسيارات ..هؤلاء دمهم ليس رخيصا علينا، لكنهم أحبوا الله ومن محبة الله لهم أنه سمح أن يسبقونا للسماء ليصلوا من أجلنا . . ونادي بصيام عام وصلاة ثلاثة أيام نرفع فيها قضيتنا لله ونتركه يحكم ويقضي وينفذ عدله حسب مشيئته .. ورحل البابا قبل أن تجف دموعه لأن نهر دماء الشهداء يتجدد ولا قصاص !!. انسحب البابا تاركا كنزا من تعاليم المحبة والتسامح، ذخيرة لأجيال قادمة .. كانت إجابته علي كل سؤال سياسي أو اجتماعي تدور حول هذا المحور الوحيد، المحبة، المحبة لكل بشر صديقا أو عدوا أو مقاوما لنا، بارا أو خاطئا.. وتفسيره أن البار نحبه لأنه قدوة صالحة، والخاطئ نحبه ونصلي من أجله لينقذه الله من أخطائه ويقوده للخير.. لأن محبتنا للناس تصل بنا لمحبة الله.. لأن من لا يستطيع محبة الإنسان الذي يبصره كيف يحب الله الذي لم يبصره!!.. والمحبة تبدأ بخدمة الآخرين، احترامهم، مساعدتهم، احتمال أخطائهم.. ودائما يكرر أن المحبة شجرة ضخمة كثيرة الثمار . فسر لنا ببساطة أغلب تعاليم الكتاب المقدس ووصايا الله، وشرح آيات كالطلاسم، مثل " احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة " .. قال إن الضيق له وجهان.. أحدهما الضيق والآخر البركة الناتجة عن التجربة.. الضيق يعلمنا الصلابة والصلاة.. وبعد التجربة نري عدل الله فنفرح ونتشدد.. وبخفة دم يضيف:- " ولما تكون في ضيق تصعب علي الناس لأنك ضعيف فيدعون لك ويساعدونك ويحبونك ".. وهذا هو البابا، تركيبة مصرية عجيبة، ابن بلد، ابن نكتة، ضابط، شاعر، صحفي، رجل دين.. وإنسان تغلبه دموعه، وتحرره أشعاره . لم أندهش من تسابق أصدقائي في آخر ساعة والأخبار لتعزيتي، والحقيقة كنا نتبادل التعازي وافتقاده كأب للجميع.. أب حكيم محب صبور خفيف الظل، يشبه ساحر مرق في حياتنا بألعابه السحرية وقبل أن يغمض عينيه وينسحب همسا بسر الفرح.. " المحبة ".. وعلق علي قلوبنا لافتة الآية المعزية " لا تضطرب قلوبكم ولا تفزعوا.. سلامي أترك لكم .. سلامي أنا أعطيكم ".. سلام يا بابا المصريين.. ويارب بارك بلادي.