من الصعب أن يجود الزمن بشخصية مثل البابا شنودة الثالث علي كرسي مرقس الرسول, فقد كان قداسته عبقرية مصرية نادرة جمعت بين الدين والعلم والإنسانية والوطنية. كان عاشقا لمصر, وهو صاحب المقولة المشهورة:( مصر ليست وطنا نعيش فيه بل هي وطن يعيش فينا). رحل البابا شنودة في وقت تحتاجه مصر بشدة بسبب التغيرات التي تمر بها, وكان رمز الوحدة الوطنية والحب بين الشعب المصري بكل أطيافه. ولد البابا شنودة الطفل( نظير جيد) في3 أغسطس1923 في أسيوط وتوفيت والدته بحمي النفاس بعد الولادة مباشرة, أمضي تعليمه الابتدائي متنقلا من دمنهور, إلي أسيوط, إلي بنها, الي القاهرة, وكان ترتيبه الأول دائما بين زملائه, عرف هواية القراءة وهو في الرابعة عشرة فعشقها وقرأ لطه حسين والعقاد وروايات الجيل والشعر وكل الكتب التي استطاع أن يقتنيها, ثم قرض الشعر وهو في السادسة عشرة من عمره, ولأنه كان طفلا يتيما فقد أرضعته نساء القرية, ومن هنا كان له إخوة في الرضاع من كل صنف ولون ودين ومذهب, منهم زهري حمدان ابن الحاجة, زينب سيد درويش, كما نشرت جريدة الأهرام في يوم الثلاثاء10/19/.2010 التحق بكلية الآداب جامعة( فؤاد الأول) القاهرة الآن. وحصل علي مجانية التفوق ودرس بقسم التاريخ بها, نال درجة الليسانس عام1947, وقبلها بعام بدأ خدمته في التربية الكنسية بكنيسة الانبا أنطونيوس بشيكولاني بشبرا, التحق بالقوات المسلحة وكان أول الخريجين من الضباط الاحتياط بمدرسة المشاة في نفس سنة حصوله علي الليسانس تخرج في الكلية الإكلرليكية الدينية عام1949 وكان الأول في الترتيب وتولي رئاسة مجلة مدارس الأحد من1949 الي1954 بداية رهبنته, وفي عام1962 اختاره البابا كيرلس السادس ليكون أول أسقف للتعليم والكلية الإكرليكية باسم الأنبا شنودة, بعد نياحة الأول ثم ترشيحه للجلوس علي الكرسي البابوي وأجريت القرعة الهيكلية يوم الاحد31 اكتوبر1971 وصدر القرار الجمهوري بتعيينه في أول نوفمبر في14 نوفمبر عام1971 تمت طقوس التتويج وسط احتفال عالمي ليصبح البابا شنودة البابا117 في سلسلة بابوات الكرسي المرقسي. عرفت البابا شنودة مذ أكثر من أربعين عاما عندما كان أسقفا للتعليم وتشرفت بصداقته الوطيدة بعد ذلك ولمست فيه الأب الروحي الحنون والانسان المحب من كل قلبه والعبقري الذي يأتي بكل جديد وبحل لكل مشكلة وهو يردده دائما: ربنا موجود. قضيت مع البابا شنودة يوم السبت13 نوفمبر1971 في الدير الانبا شنودة, وهو اليوم السابق لتتويجه وتجليه علي كرسي البابوية, وكان حوارا طويلا وحديثا من القلب وسجلت معه أول حديث إذاعي أذيع له بعد تنصيبه مباشرة من إذاعة الشعب.. كان البابا ينام علي مصطبة في التلاية الخاصة به, ولأنه كان يعاني من العمود الفقري, فكان ينام علي سمك لحاف حتي يتفادي الألم ولا يهتم بطعامه أو شرابه فهو راهب. سألته علي الحكمة التي يؤمن بها فقال قول كونفشيوس: بدلا من أن تلعنوا الظلام أضيئوا شمعة.. وهو مثقف رفيع المستوي يناقشك في أعمال طه حسين والعقاد وسلامة موسي ومعظم المفكرين في العالم وكانت مقابلاتي لقداسته بعد ذلك تستمر ساعات طوالا في مناقشات أدبية وفكرية ووطنية مفيدة, فهو ينقل إليك حماسه ونشاطه الدءوب الذي لا يعرف الكلل, وكنت أسأله كيف تقوم بكل هذه الأعمال ومسئولية البابوية ثم تجد وقتا للقراءة والبحث والكتابة وكان يجيب: التنظيم مهم في حياة كل إنسان, أنت تستطيع أن تعمل الكثير بشيء من التنظيم, ثم كان يستطرد. ومع ذلك أن أصلي لأن يجعل الله اليوم48 ساعة حتي أستطيع وأتمكن من عمل كل شيء. وقد أمد الله في عمره حتي قارب التاسعة والثمانين. استطاع في عهده سيامة أكثر من115 مطرانا وأسقفا. ووصل عدد الرهبان في عهده إلي أكثر من1300 راهب و650 راهبة ومعظمهم من خريجي الجامعة. كما ارتفع عدد الإيبارشيات وهي المراكز الدينية داخل مصر من23 سنة1971 الي50 سنة2003 وهي أكثر الآن, وخارج مصر الي20 الآن في كل دول العالم. أما الأديرة فقد ارتفع عددها أيضا إلي21 ديرا للرهبان و7 أديرة للراهبات غير أديرة خارج مصر في أمريكا واستراليا وأوروبا وإفريقيا, وفروع للكلية الاكليريكية في هذه الدول والقارات. البابا شنودة ايضا تمتع بعبقرية منطلقة في مجال التعليم فكان ذهبي الفم يقيم كل أسبوع محاضرتين الأولي يوم الأربعاء مع شعب القاهرة والثانية يوم الأحد مع شعب الإسكندرية هذا غير التسجيلات الخاصة به أو بالاذاعات والتليفزيونات المصرية والعالمية, وبجانب ذلك قدم للمكتبة العربية أكثر من051 كتابا روحيا اجتماعيا منها: انطلاق الروح, الزوجة الواحدة, إسرائيل في رأي المسيحية, قامت بنشره نقابة الصحفيين, المسيح المتألم, حياة القديس الأنبا انطونيوس والمحبة قمة الفضائل. كان البابا شنودة محبا جدا للرئيس السادات وقال لي في أكثر من مناسبة: العلاقة بيني وبين الرئيس السادات شهر عسل دائم.. أما الجفوة التي حدثت بينهما فكان سببها للأسف بعض الشخصيات العامة المسيحية عام1981, كما قال الأستاذ أنيس منصور لي في أكثر من مناسبة. البابا شنودة تمتع بموهبة العمل الصحفي, وكان عضوا بنقابة الصحفيين وله مقال أسبوعي في جريدة الأهرام الغراء كل أحد, وكان ينتظره القراء علي اختلاف مشاربهم, لا شك أن رحيل البابا شنودة خسارة كبيرة لمصر وكل العرب فقد كان بابا العرب ايضا, ولا ننسي موقفه من إسرائيل وعدم السماح للأقباط بزيارة القدس رفضا للتطبيع. المزيد من مقالات فايز فرح