بعد أن انحاز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقوة تجاه السعودية ضد إيران، تتأهب فرنسا للعب دور الوسيط بين الخصمين الخليجيين المتنافسين، لكن حيادها الشديد قد يجردها من أي وسيلة ضغط ذات مغزي. ومع احتدام التوتر بين الرياضوطهران منذ استقالة سعد الحريري من رئاسة وزراء لبنان، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة لم تكن معدة سلفا للسعودية حيث التقي ولي العهد محمد بن سلمان، بعدما كان طلبه الأول مقابلة الملك سلمان، إلا أن مطلبه هذا تعثر تلبيته لأسباب شابها الالتباس. الخطوة التي اتخذها ماكرون، قبل زيارة محتملة لإيران العام المقبل، تتماشي مع نهجه في السياسة الخارجية الذي يتمثل في محاولة الوساطة بين جميع الأطراف دون أي التزام يقع عليه ودون أن يكون مصدر إزعاج لأحد. وزير الخارجية الفرنسي السابق آلان جوبيه، قال تعليقاً علي زيارة ماكرون للرياض "هناك قدرة علي الأخذ بزمام المبادرة أقوي من ذي قبل". وأضاف "جميل أن يتدخل الرئيس. إنها مبادرة أخذها علي عاتقه وقد تنجح". وخلال زيارته دبي الأسبوع الماضي سار ماكرون علي خط دقيق وهو يطالب بموقف دولي حازم تجاه برنامج إيران النووي والصاروخي وبين التحذير ضمنيا من أن نهج الرياض تجاه خصمها الشيعي مبالغ فيه. والسير علي هذا المنوال قد يساعد علي حماية روابط فرنسا التجارية والاقتصادية في إيران ويتيح متسعا من الوقت للسعودية، لكن بعض الدبلوماسيين يتملكهم القلق من أن الرئيس البالغ من العمر 39 عاما والحديث العهد بالشؤون الدولية قد يترك فرنسا في مهب الريح في نهاية الأمر. إيران رفضت دعوة ماكرون لإجراء محادثات حول برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني قائلة إن صواريخها دفاعية ولا علاقة لها بالاتفاق النووي مع القوي العالمية. وذلك رداً علي قول الرئيس الفرنسي في دبي إنه "قلق بشدة" بسبب برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، وحديثه عن اعتراض السعودية صاروخا أطلق من اليمن هذا الشهر. وأثار الرئيس الفرنسي إمكانية فرض عقوبات فيما يتعلق بهذه الأنشطة. وقال ماكرون: "هناك مفاوضات يجب أن نبدأها بخصوص صواريخ إيران الباليستية". لكن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي رفض هذا الاحتمال وقال: "فرنسا علي دراية كاملة بموقف بلادنا الراسخ بأن شؤون الدفاع الإيرانية غير قابلة للتفاوض". وأضاف في بيان نشره الموقع الإلكتروني للخارجية الإيرانية "قلنا للمسؤولين الفرنسيين مرارا إن الاتفاق النووي غير قابل للتفاوض ولن يُسمح بإضافة قضايا أخري له". مصدر دبلوماسي فرنسي قال "ينبغي أن نحد من المخاطر التي يمكن أن نواجهها في المنطقة. يمكن أن نتلقي ضربات عديدة وليس لدينا نقاط نضغط بها عليهم... لا أعتقد أن من صالحنا أن ندخل في عراك بين القوي الإقليمية في المنطقة". سواء في عهد الرئيس السابق فرانسوا أولاند الذي أخذ صف السعودية أو في عهد سلفه نيكولا ساركوزي الذي انحاز لقطر، وطدت فرنسا أواصر جديدة مع الدول العربية الخليجية بينما اتخذت منحي متشددا إزاء إيران خلال المفاوضات النووية. لكن خلال حملته الانتخابية تعهد ماكرون باتخاذ نهج مختلف. وانتقد علنا السعودية وقطر لما اعتبره "دعما لجماعات إسلامية متشددة في المنطقة". وبعد الاتفاق النووي الذي رفع العقوبات عن إيران عادت فرنسا لتعاملاتها التجارية والاستثمارية معها. لكن خلال نفس الفترة، أحدث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تغييرا واسعا علي الساحة وأقام علاقات وثيقة مع ترامب واتخذ نهجا يتسم بقدر أكبر من المواجهة مع إيران، وفي الأسبوع الماضي أحدث تغييرات كاسحة بالهياكل السياسية بالسعودية. محاولة للتوازن دومينيك مواسي المستشار الخاص المسؤول عن العلاقات الدولية في معهد مونتاني بباريس، علق علي زيارة ماكرون للرياض، لوكالة رويترز بالقول إن: "فرنسا تحاول أن تكون عامل توازن بين إيران والسعودية"، وأضاف "مع تفاقم الوضع في المنطقة، فإنها تعرض نفسها كوسيط بعد أن فضل ترامب معسكرا علي الآخر" مشيرا إلي قرار الرئيس الأمريكي عدم التصديق علي التزام إيران بالاتفاق النووي. حاول ماكرون أن يبدو محايدا يعرض شيئا ما علي كل طرف. وتعهد بالالتزام بالاتفاق النووي مع إيران بينما أخذ يعزز العلاقات مع ترامب والسعودية. وفي الوقت ذاته هدد بفرض عقوبات جديدة علي طهران بسبب برنامج صواريخها الباليستية ووعد بالتعامل مع نفوذها المتصاعد في المنطقة، غير أن إيران لم تبد أي اهتمام رسمي تجاه ما قام به. وقال مسؤول إيراني كبير تحدث لرويترز شريطة عدم الكشف عن اسمه: "لا أعتقد أن هذه السياسة ناجحة.. إن كانت دولة بحجم فرنسا تحاول استرضاء الأطراف، فإن ذلك سيأتي بأثر عكسي مع شخص مثل ترامب وسيشجع إدارته علي التمادي". ويؤكد المسؤولون الفرنسيون أن باريس يمكن أن تلعب دورا في صراعات دولية عديدة نظرا لكونها عضوا له حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ولعلاقاتها التاريخية في الشرق الأوسط. ويقولون إن بقاءها علي الحياد سيكسبها مصداقية ويجعلها تبدو متسقة مع نفسها علي المدي الطويل. ومنذ تولي ماكرون الرئاسة، عرض الوساطة في ليبيا وأوكرانيا وسوريا وفي الأزمة مع قطر بل وفي فنزويلا. وفي كل مرة كان يحاول تجنب الانحياز مع أحد ضد أحد. لكن جهوده دائما كانت في مسارات غير مجدية. جلال حرشاوي الباحث بجامعة السوربون قال إن : "فرنسا تدرك تماما أن هناك مشكلة زعامة في الجانب الأمريكي وتعي أن هذه ربما كانت فرصة لإحداث اختلاف". وأضاف "لكن يبدو حتي الآن أن ماكرون وفريقه في حالة انعدام تركيز وأنهم في عجلة للإعلان عن مبادرات كبري، لكن النتائج محدودة للغاية". سير فرنسا علي خط رفيع في الأزمة اللبنانية تجلي في إجراء تعديل علي تصريحات سابقة لوزير خارجيتها جان إيف لو دريان، حيث ألمحت إلي أن رئيس وزراء لبنان المستقيل سعد الحريري قد لا يكون حر الحركة وحثت علي أن يواصل دوره الحيوي في لبنان. وكان لو دريان قال لمحطة (أوروبا1) الإذاعية إنه يعتقد أن رئيس وزراء لبنان المستقيل سعد الحريري لا يخضع للإقامة الجبرية في السعودية وليس هناك أي قيود علي حركته. وقال لو دريان لإذاعة أوروبا 1 "نعم، علي حد علمنا. نعتقد إنه حر في تحركاته والمهم أنه اتخذ خياراته". لكن حين طلب صحفيون من ألكسندر جورجيني نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية توضيح تعليقات الوزير قال إن باريس تريد أن يكون الحريري حرا وهو ما يشير إلي احتمال ألا يكون كذلك. وقال جورجيني "نتمني أن يحصل سعد الحريري علي كامل حريته في التحرك ويكون قادرا بشكل كامل علي القيام بدوره الحيوي في لبنان".. وترتبط فرنسا بعلاقات خاصة مع لبنان مستعمرتها السابقة ومع الحريري الذي يملك منزلا في باريس حيث عاش عدة سنوات. وقال ماكرون إن هناك اتصالات غير رسمية مع الحريري لكن ليس هناك طلب لنقله إلي فرنسا. مهلة أسبوع من جهته دعا الرئيس اللبناني ميشيل عون المملكة العربية السعودية إلي توضيح الأسباب التي تحول دون مغادرة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري المملكة والعودة إلي لبنان، وأمهلها أسبوعاً قبل التقدم بشكوي رسمية لمجلس الأمن. وأضاف عون أن كل ما صدر أو يمكن أن يصدر عن الحريري "لا يعكس الحقيقة" بسبب غموض وضعه منذ أن أعلن الاستقالة في بث تلفزيوني من السعودية. وقال بيان صادر من مكتب الرئيس اللبناني إن عون يدعو السعودية "التي تربطنا بها علاقات أخوة وصداقة متجذرة إلي توضيح الأسباب التي تحول حتي الآن دون عودة الرئيس الحريري إلي لبنان ليكون بين أهله وشعبه وأنصاره". وقال مسؤولان كبيران بالحكومة اللبنانية وسياسي كبير مقرب من الحريري ومصدر رابع لرويترز، إن السلطات اللبنانية تعتقد أن الرياض تحتجز الحريري. وكرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مخاوف مماثلة وقال في اتصال هاتفي مع عون: "يجب أن يتمتع الزعماء اللبنانيون بحرية التنقل". وقال بيان لقصر الإليزيه إن ماكرون الذي قام بزيارة لم تكن مقررة سلفا للرياض الأسبوع الماضي سيستقبل وزير خارجية لبنان في باريس يوم الثلاثاء (أمس). وتقول الرياض إنه لا قيود علي تحركات الحريري وإنه قرر الاستقالة لأن حزب الله اللبناني حليف إيران يتحكم في حكومته الائتلافية. ولم يدل الحريري بأي تصريحات علنية منذ الاستقالة مطلع الأسبوع الماضي عندما قال إنه يخشي من تعرضه للاغتيال واتهم إيران وحزب الله ببث الفتن في العالم العربي. كما لم يشر الحريري إلي موعد عودته إلي بيروت. وفيما يبدو أنه رد علي تصريحات عون واتصال الرئيس ماكرون به، قال المكتب الإعلامي للحريري إنه كان من بين مستقبلي الملك سلمان بن عبد العزيز، يوم السبت الماضي، لدي عودته إلي الرياض قادما من المدينةالمنورة. وأضاف المكتب أن الحريري استقبل كذلك سفيري تركيا وبريطانيا في منزله بالرياض. الإدارة الأمريكية قالت إن البيت الأبيض "يرفض أي دور لميليشيات في لبنان أو أي دور لقوات أجنبية تهدد استقرار لبنان..أو تستخدمه كقاعدة تهدد منها الآخرين في المنطقة". وحذر وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون الدول والجماعات الأخري من استخدام لبنان أداة لحرب أكبر بالوكالة في الشرق الأوسط. وقال تيلرسون للصحفيين إنه لا يوجد ما يدل علي أن الحريري محتجز علي عكس رغبته لكن واشنطن تراقب الوضع.