«آخر ساعة» من العالم الكبير الأستاذ ألبرت أينشتين صاحب نظرية النسبية أن يكتب مقالا عن القنبلة الذرية - وقد تلقينا المقال التالي بالتلغراف. وأبلغتنا شركة روتر بخطاب رسمي أن هذا المقال لن ينشر في أي جريدة في العالم إلا بعد 24 ساعة من نشره في مجلة «آخرساعة» وأول أمس أطلقت القنبلة الذرية الرابعة علي العالم في بيكيني. وفي هذا المقال يشرح الأستاذ ألبرت أينشتين الآثار السياسية للنشاط الذري. وكان أينشتين قد تكهن بإمكان التحول المتبادل بين المادة والنشاط، فكان هذا هو المفتاح من الوجهة النظرية لكل بحث ذري فيما بعد. تساءل كثيرون عن رسالة حديثة لي قلت فيها إنه «لابد من التفكير علي نحو جديد إذا أريد للجنس الإنساني أن يبقي وأن ينتقل إلي مستويات أعلي». وكثيرا ما حدث ان اضطر جنس من الأجناس، في تطوره، أن يتكيف علي مقتضي أحوال جديدة ليتسني له البقاء، واليوم جاءت القنبلة الذرية فأحدثت تغييرا عميقا في طبيعة العالم، كما كنا نعرفه، فالجنس الإنساني يلقي نفسه في أحوال جديدة يجب عليه أن يجعل تفكيره مطابقا لها. وإذا نحن اعتبرنا المعرفة الجديدة التي اهتدينا إليها، فإن قيام سلطة عالمية ثم دولة عالمية لا يعد مجرد أمر مرغوب فيه، باسم الإخاء الإنساني، بل يعد ضروريا للبقاء. وقد كانت حياة الأمة وثقافتها تحسبان إلي حد ما في العصور الماضية بالجيوش والمنافسة الدولية، أما اليوم فإن علينا أن ننبذ التنافس ونحل محله التعاون، وينبغي أن تكون هذه الحقيقة مركز الدائرة في كل نظرة إلي الشئون الدولية وإلا فإنا نواجه كارثة محققة. إن أساليب التفكير الماضية لم تمنع الحروب، فجب أن يمنعها أسلوب تفكير جديد. ففي الحرب الحديثة جاءت القنبلة الذرية وغيرها من الاستكشافات والاختراعات بأحوال جديدة، فما كان من الممكن قط فيما مضي أن تشن أمة حربا علي أمة أخري دون أن تبعث بجيوشها لتجتاز حدودها، والآن بعد ظهور الصواريخ والقنابل الذرية لم يعد مكان علي ظهر الأرض آمنا من التدمير المفاجئ بهجمة واحدة. ولأمريكا تفوق وقتي في التسليح، ولكن من المحقق أنها لا تملك سرا يمكن الاحتفاظ به علي الأيام فإن الطبيعة حين تطلع فريقا من الناس علي سرها، لا تلبث أن تطلع عليه أي فريق آخر يعني بالأمر ويؤتي الصبر الكافي علي طول البحث والاستطلاع. غير أن تفوق أمريكا الوقتي يحملها تبعة ضخمة عن الأخذ بيد البشرية لاجتياز الأزمة. ولما كان الأمريكيون شعبا ذكيا فإنه يجد من الصعب عليه أن يعتقد أنه ليس ثم دفاع يمكن الاهتداء إليه ضد القنبلة الذرية. غير أن الحقيقة الأساسية هي أن العلماء لايعرفون أي مجال يبعث علي الأمل في الاهتداء إلي دفاع مجد. ويأبي العسكريون إلا أن يتشبثوا بأساليب التفكير العتيقة، وقد قامت إحدي وزارات الولاياتالمتحدة بالبحث في إمكان الدخول في جوف الأرض وبنقل المصانع في أيام الحرب إلي مثل الكهوف ويتحدث أناس آخرون عن توزيع مراكز السكان علي «خطوط» أو «اناشيط» من المدن. ولكن العقلاء إذ يتدبرون هذه الحقائق الجديدة يأبون أن يتصوروا مستقبلا تحاول فيه ثقافتنا أن تتقي البيود بالالتجاء إلي مقابر تحت الأرض ولايجدون ما يطمئنهم في الاقتراحات القائلة بوضع مائة ألف رجل علي طول السواحل يفحصون السماء بالرادار. إنه لا دفاع بالرادار ضد ال « ف - 2» وإذا أمكن إيجاد وسيلة للدفاع بعد سنوات من البحث فإنه ليس من الممكن أن يكون أي دفاع وافيا كاملا، ولو أن صاروخا واحدا في رأسه قنبلة ذرية انقض علي مدينة نيويورك لاستحالت هذه المدينة إلي مثل ما استحالت إليه نجازاكي. إن رصاص البنادق يقتل الناس ولكن القنابل الذرية تقتل المدن وتسحقها، والدبابة تقي من الرصاص، غير أنه ليس ثم دفاع ضد سلاح يستطيع أن يأتي علي الحضارة. إن دفاعنا لا يتأتي بالتسليح ولا بالعلم ولا بالنزول إلي جوف الأرض وإنما يتأتي بالقانون والنظام. ومن الآن فصاعدا يجب أن تكون السياسة الخارجية لكل أمة قائمة علي اعتبار واحد هو: هل تؤدي بنا هذه السياسة إلي قانون ونظام عالميين، أو ترتد بنا إلي الفوضي والموت؟ ولست أعتقد أننا نستطيع أن نستعد للحرب وأن نمهد في الوقت نفسه لإقامة هيئة عالمية، ومتي وضعت الإنسانية في يدها أسلحة تستطيع أن تنتحر بها، فإني أعتقد أن إضافة قوة جديدة إلي المدافع ليس لها من نتيجة إلا جعل الكارثة أقرب في الاحتمال. إن الحرب التي بدأت بأن استخدمت ألمانيا أسلحة لم يسبق لها مثيل في الهول ضد النساء والأطفال، انتهت بأن استخدمت الولاياتالمتحدة السلاح الأعلي الذي يعصف بالآلاف بضربة واحدة. وهناك كثيرون في بلاد أخري ينظرون إلي أمريكا بارتياب عظيم، لا من أجل القنبلة الذرية وحدها بل لأنهم يخشون أيضا أن تصبح دولة استعمارية، وقد كانت أمثال هذه المخاوف تساورني أنا أيضا قبل التحول الأخير في مجري الحوادث. وقد لايخاف أبناء الشعوب الأخري الأمريكية إذا عرفوهم كما عرفتهم في برنستون (مخلصين طيبي الجوار)، غير أن الأمم الأخري تدرك أن الأمة يمكن أن يسكرها النصر ويدير لها رأسها. ولو أن ألمانيا لم تنتصر في سنة 0781 لأمكن اتقاء المأساة التي حلت بالجنس البشري. ومازلنا نصنع القنابل الذرية، والقنابل تخلق البغضاء والشكوك، ونحن نحتفظ بسرها، وكتمان السر يولد الريبة. ولست أقول أن علينا أن نكشف للعالم عن سر القنبلة الذرية، ولكني أتساءل: هل نحن جادون في السعي لإيجاد عالم لاحاجة به إلي القنابل الذرية أو أسرارها عالم يكون فيه العلم حرا والناس أحرارا؟ وما دامت أمريكا تسيء الظن بتكتم روسيا، وروسيا تسيء الظن بتكتم أمريكا فنحن جميعا ماضون إلي قضاء محتوم. لقد بولغ في التمسك بالفقهيات والإجراءات القانونية، وأنه لعسير جدا أن تغير روح الشر في الإنسان. والأممالمتحدة هي الأداة الوحيدة التي نستطيع استخدامها في كفاحنا للوصول إلي ماهو خير غير أن أمريكا استخدمت الأممالمتحدة وإجراءاتها للتغلب علي روسيا في مناسبات كان فيها الروسيون علي حق، نعم، لا أعتقد أن من الممكن أن تكون أمة علي حق دائما أو مخطئة دائما. وفي جميع المفاوضات، سواء كان مدارها أسبانيا أو الأرجنتين أو فلسطين أو الطعام، أو النشاط الذري مادمنا نتمسك بالإجراءات والفقهيات ونلوح مهددين بالقوة العسكرية، فإننا لا نصنع شيئا سوي أننا نحاول استخدام أساليب قديمة في عالم قد تغير كل التغير إلي الأبد. وما من أحد ينكر أن هيئة الأممالمتحدة تقدم أحيانا أدلة قوية تسوغ الأمل المستبئس الذي يعلقه عليها الملايين، ولكن الوقت يضيق عن حل المشاكل التي جاءت بها حرب العلم، وثم قوات عظيمة في العالم السياسي تسير بسرعة إلي الأزمة. وإنا لنرد أعيننا إلي نهاية الحرب فيخيل إلينا أنها انتهت لا منذ عشرة أشهر بل منذ عشرة أعوام! وهناك زعماء كثيرون يبينون مبلغ الحاجة إلي إيجاد سلطة عالمية، وإلي قيام حكومة عالمية، ولكن العمل في سبيل ذلك يسير ببطء مروع، والهيئات الحرة تسبق إلي العمل للمستقبل أما أداة الحكومات فتبدو كأنها مازالت تعيش في الماضي. ومن الجلي أن الروح القومية ستبقي في الجيوش زمنا أطول مما تبقاه في غيرها، وقد يلطف من حدتها أن تختلط الوحدات المختلفة في القوة العسكرية للأمم المتحدة، ولكنه لايمكن تلطيف حدتها إذا كانت وحدة روسية قائمة بذاتها موجودة إلي جانب وحدة أمريكية قائمة بذاتها فإن هذا يخلق التنافس المألوف بين الوحدات ويقوي الروح القومية بين الجنود في جيش عالمي للسلام. إن هناك رجالا ذوي مناصب سامية يقترحون تدابير دفاع أو حرب تضطرنا أن نعيش في جو عالمي من الخوف وتكلف نفقات لاسبيل إلي حسابها وتقضي في النهاية علي الحياة الحرة - حتي قبل أن تنشب أي حرب. وقد بدأ هؤلاء الرجال الطيبون الذين تأخروا عن زمانهم، بأن فرضوا وصاية سخيفة علي أساتذة العلم ورجاله، وسيغيرون حياة الناس تغييرا أتم وأسوأ مما استطاعه هتلر لأن القوات التي وراءهم لها مثل الباس الذي كان لقوات هتلر. وقبل أن تحدث الغارة علي هيروشيما تقدم علماء الطبيعة إلي وزارة الحرب طالبين ألا تستخدم القنبلة الذرية في ضرب الأطفال والنساء، وقد كاد من المستطاع كسب الحرب بغيرها، ولكن تقرير استعمال القنبلة بني علي تقدير ما يحتمل أن تخسره أمريكا من أرواح أبنائها في المستقبل إذا لم تستعمل القنبلة - فالآن علينا أن نفكر في الخسارة المحتملة في المستقبل حين يضرب الملايين بالقنابل الذرية. ولعل قرار أمريكا كان غلطة وبيلة، لأن الناس يخلدون إلي الاعتقاد بأن سلاحا استعمل مرة يمكن أن يستعمل مرة أخري، ولو أننا أطلعنا الأمم الأخري علي تجارب القنبلة الذرية في المكسيك الجديدة لأمكن أن تتخذ من ذلك وسيلة لإدخال آراء جديدة في عقول الناس، وكان خليقا بهذه الفرصة أن تكون صالحة لوضع اقتراحات سديدة لإقامة نظام عالمي يحول دون الحرب. وكان جديرا نبذنا لهذا السلاح لشدة هوله أن يكون له تأثير بالغ في المفاوضات والمباحثات وأن يثبت للأمم الأخري إخلاصنا حين نطلب منها المشاركة في العمل علي استخدام هذه القوة في الخير. وفي وسع أساليب التفكير العتيقة أن تثير ألف اعتراض من الواقع علي هذه البساطة. غير أن التفكير علي هذا النحو يغفل الحقائق النفسانية، فإن كل الناس يخشون الحرب الذرية، والناس جميعا يرجون أن يستطاع الانتفاع بهذه القوة الجديدة. وإذا نظرنا إلي حقائق الرغبات الصادقة للإنسان، وحقائق الخوف، فان لنا أن نسأل: ماهي الحقائق المطلقة للوقاية العسكرية؟ لقد فقد كثيرون في أثناء الحرب عادة التفكير بعقولهم، فقد كان عليهم أن يفعلوا مايؤمرون به، وأخلق بما يولده هذا من قلة الاكتراث أن يكون خطأ عظيما لأن الأوساط من الناس يمنعهم الشيء الكثير لاتقاء هذا الخطر. إن الرجل العادي يسمع صوته في البلاد الديمقراطية إذا هو نطق، والاقتصار علي قراءة مايكتب عن القنبلة الذرية يزيد المعرفة التي يحصلها المرء بعقله، ولكن الكلام بين الناس هو الذي يعمق إحساس القلب. إنه حتي العلماء أنفسهم لايفهمون النشاط الذري فهما تاما، لأن علم كل إنسان فرد ناقص، وما أقل من رأوا القنبلة الذرية! ولكن الناس جميعا إذا عرفوا بعض الحقائق يستطيعون أن يدركوا أن هذه القنبلة وخطر الحرب، أمر جدي وليس مجرد شيء بعيد، وأن هذا الأمر يعني كل إنسان في العالم المتمدين. وليس في وسعنا أن ندع للقواد وأعضاء الشيوخ ورجال السياسة إيجاد حل في مسافة من الزمن تمتد بضعة أجيال، فإن من المحتمل في خلال خمس سنوات أن تكون عدة أمم قد صنعت قنابل ذرية، وحينئذ تضيع فرصة تفادي الكارثة، فالوقت الحاضر هو الوقت الذي يجب أن يفكر الناس فيه وينطقوا، وعلينا أن نبدأ مستعينين بلجنة النشاط الذري للوصول إلي اتفاق ملزم، غير أن قرار كل دولة من الدول لن يصدر حول منظمة الأممالمتحدة، فإن ممثليها في نيويورك ولندن وباريس وموسكو إنما يعتمدون في النهاية علي القرارات التي تصدر في ساحات القري. فعلينا أن نحمل إلي ساحات القري الحقائق المتعلقة بالنشاط الذري ونشرحها هناك، فإن صوت الأمة يرتفع من هذه الساحات، وقد حمل هذا الاعتقاد علماء الطبيعة علي تأليف لجنة طوارئ من علماء الذرة للقيام بحملة واسعة النطاق وتعريف الناس بحقائق الموضوع بواسطة اللجنة القومية للمعلومات الذرية. وأخلق بالسعي لإقامة هيئة عالمية أن يكون أسهل إذا فاز البحث والسعي بتأييد الجمهور المدرك، وحينئذ تصبح الاقتراحات الأمريكية لا مجرد وثائق وبيانات جافة مملة من حكومة إلي حكومات أخري بل رسالة إلي الإنسانية من أمة مؤلفة من آدميين. لقد جاء العلم بهذا الخطر، ولكن المسألة الحقيقية في قلوب الناس وعقولهم، ولسنا نستطيع أن نغير قلوب الناس بوسائل آلية، وإنما نغيرها إذا غيرنا نحن قلوبنا ونطقنا بشجاعة. 1 ويجب أن نكون أسخياء فنقدم للعالم ما نعلمه عن قوات الطبيعة بعد أن توجد ضمانات تحول دون سوء الاستعمال. 2 وعلينا أن نكون مستعدين للخضوع لسلطة عالية لا غني عنها لأمن العالم وسلامه. 3 وعلينا أن ندرك أننا نستطيع أن نعمل للحرب والسلم في آن واحد.. ومتي صفت قلوبنا وعقولنا فحينئذ فقط نجد الشجاعة التي نتغلب بها علي الخوف الذي يخامر العالم. نشر في العدد 610 بتاريخ 3/7/1946