القاعده القانونية تقول "المُتهم بريء حتي تثبت إدانته"، لكن من منا يُطبق تلك القاعدة الراسخة في أذهاننا، شعاراً ليس أكثر، مُجرد إلقاء القبض علي شخص أو احتجازه رهناً للتحقيق، يجعله في نظر المجتمع مُتهماً وجانياً لا يحق له الدفاع عن نفسه، حتي دون أن يصدر بحقه حكم نهائي بالإدانة. ثبوت التُهمة علي مُرتكبها أمر ليس بالسهل، وصدور حكم بات بالإدانة يتطلب توافر عدة عناصر تؤكد ارتكابه للجريمة، أهمها التحقيقات، والأدلة، وملابسات الواقعة، وشهادة الشهود، وغيرها الكثير، ويُعد العُنصر الأخير (شهادة الشهود)، أحد الأركان الهامة لإظهار الحقيقة، سواء بتورط المُتهم أو تبرئته، وللنيابة الحق في تقديم شهود العيان، كأدلة ثبوت تفيد تورط المتهم في القضية، ويكون الشاهد في هذه الحال قد رأي المُتهم خلال ارتكابه للجريمة أو قام بتصويره أو سمع صوته، كما يحق للدفاع أيضاً أن يُقدم للمحكمة شهادة الشهود باعتبارها أدلة نفي، تؤكد أن المُتهم لم يرتكب الجريمة المنظورة أمامها. الجمل: «متفصل» لقضايا الإرهاب.. كبيش: يُخل بمواثيق العدالة إسحاق: العدالة تفقد مسارها.. أمين: يٌقلل مُدة التقاضي طوال السنوات الثلاثة الماضية عانينا جميعاً من طول أمد المُحاكمات في مُختلف القضايا بتنوع خطورتها، رغم الأوضاع السيئة التي تمُر بها البلاد، ومُطالبات الكثيرين بإنجاز نظر القضايا المنظورة أمام القضاء، الأمر الذي رد عليه قانونيون بأن القضاء مظلوم كونه مُكبلاً بإجراءات روتينية يتوجب عليه اتخاذها قبل إصدار حكمه النهائي في القضايا المنظورة أمامه، وأبرز تلك الإجراءات هو الاستماع لشهادة الشهود كاملة سواء الإثبات أو النفي، والسماح للنيابة والدفاع باستجواب جميع الشهود باعتباره حقاً منصوصا عليه بالقانون، الأمر الذي يحتاج لعدة جلسات مطولة تضطر معها المحكمة إلي تأجيل نظر القضايا لمُدد طويلة دون صدور حكم نهائي. وفي مُحاولة للتغلب علي ذلك الأمر، وافق مجلس الوزراء في اجتماعه الأسبوعي قبل الأخير، علي مشروع قانون يُفيد بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية المُتعلقة بسماع شهادة الشهود، وإحالته إلي مجلس الدولة للمُراجعة، وهي المواد التي كان تجاوزها أو مخالفتها سبباً في الطعن أمام الدرجة الأعلي أو أمام محكمة النقض، بحيث يصبح من حق القاضي التجاوز عن سماع الشهود، سواء الإثبات الذين تقدمهم النيابة، أو شهود النفي الذين يقدمهم دفاع المُتهمين. التعديلات شملت المادتين 277 و289 من قانون الإجراءات الجنائية بحيث يكون الأمر كله في استدعاء الشهود أو سماعهم في يد المحكمة، دون مُعقب عليها، ذلك أنها هي التي تُطبق مبدأ المحاكمة العادلة، وبالتالي فإنه يحق للقاضي التغاضي عن سماع الشهود، والحكم طبقاً لما يراه. توقيت صدور هذا القانون أثار جدلاً كبيراً فالبعض يري أنه فُصل خصيصاً لمُحاكمة المتهمين في قضايا الإرهاب، بينما يؤكد آخرون أنه يخدم في الأصل قانون التظاهر، ويكبل أيدي معارضي النظام، وربما يكون سبباً في تكبيل الحريات، وتوجيه اتهامات باطلة للمُتظاهرين السلميين. وفقاً إلي الناشط الحقوقي، أسامة محرز، فإن هذا القانون يُهدر أهم شروط وقواعد المُحاكمة العادلة، ويغل يد المحاكم في الدرجة الأعلي، ويمنع حق المدنيين في الطعن علي قرارات المحكمة، ويُطالب محرز بضرورة الإعلان عن أسباب صدور هذا القانون، مُشيراً إلي ضرورة تحرك القائمين علي جهاز العدالة في مصر لإعلان رفضهم لهذا القانون وغيره من القوانين والإجراءات التي تنحر في حريات وحقوق المواطنين المصريين. محرز قال: "شهادة الشهود من المُمكن أن تُغير مصائر مُتهمين، فإذا لم يسمع القاضي كلام الشهود الذين يمتلكون معلومات هامة عن القضية فربما يكون حكمه النهائي خاطئا وظالما". مُلابسات هذا القانون أزعجت جورج إسحاق، عضوالمجلس القومي لحقوق الإنسان، وجعلته يصفه بأنه خطأ جسيم، ويشوبه الكثير من الغموض، وقال جورج: "المدرسة القضائية الرفيعة التي اعتدنا وجودها بمصر تفقد الآن جزءا من أدائها بأن يكون للقاضي حرية اختيار سماع رأي الشهود من عدمه"، مُتابعاً: "القضاء مُستقل وهذا القانون لا علاقة له بالإرهاب مُطلقاً". رافضاً بشدة صدور هذا القانون، قال ناصر أمين، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، إن الهدف من هذه التعديلات كان تقليل مُدة التقاضي، لكن القائمين علي إجراء التعديلات تصوروا بشكل خاطئ أن اقتطاع شهادة الشهود من أمد التقاضي سيحل الأزمة، مُستطرداً: "شهادة الشهود أحد أهم أركان الدفاع في القضايا الجنائية، حتي أنه إذا تعسف القاضي، ومنع سماع الشهود في دعوي قضائية، يتم رفع الأمر إلي محكمة النقض، بما يؤكد علي ضرورة الاستماع لشهادة الشهود بأي مُحاكمة". أمين، انتقد بشدة فكرة الموافقة علي المشروع بحجة عدم إطالة أمد التقاضي، وقال: "الإنجاز لا يجب أن يأتي علي ثوابت العدالة، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تقليص مُدد التأجيل، والتسريع من إجراءات الموظفين، والمحامين"، مُتسائلاً: "لا أعرف كيف مرت هذه الكارثة من وزارة العدل؟"، وحذر بقوله: "القضاء في جميع أنحاء العالم يستمع لشهادات الشهود، وهو أمر ثابت في القانون المصري مُنذ أكثر من 80 عاماً، ولو تم تمرير القانون الأخير فلن يعترف العالم بأي حكم يصدر من محكمة مصرية". الأمر لدي رئيس مجلس الدولة السابق، المُستشار محمد حامد الجمل، كان مُختلفاً فهو يري أن القانون الجديد سيجعل المُحاكمات ناجزة للعدالة، وسيعمل علي الإسراع بمدة التقاضي، مُشيراً إلي أن هذا القانون فُصل خصيصاً لقضايا الإرهاب التي استمرت وقتا طويلا في المحاكم دون النظر فيها، لافتاً إلي أن المُتهمين يستخدمون طلبات الرد لتعطيل المُحاكمات، وإطالة أمد التقاضي حتي يتم تغيير المحكمة، كما أنهم يقومون باستدعاء شهود ليس لهم علاقة بالجرائم المنظورة، وارتباطهم بالقضايا يكون في الغالب وهمياً، وذلك كله من أجل تأخير الفصل في القضية المنظورة أمام المحكمة. الجمل، قال: "القاضي لم يكن لديه إمكانية تقدير جدية هؤلاء الشهود من عدمه، وهنا يحق له استبعاد من أتوا للشهادة دون مُبرر يتعلق بالعدالة، وليس لديهم ما يضيفونه لسير المُحاكمة"، وتابع: "الرفض لا يعتبر إخلالا بحق الدفاع مُطلقاً، ويُشرط أن يكون استدعاء الشهود مُبرراً ولأغراض تتعلق بصالح العدالة نفسها، وليس لمُجرد التعطيل"، لافتاً إلي أن العمل بهذا القانون لن يقتصر علي قضايا الإرهاب فحسب، وإنما سيشمل مُختلف أنواع القضايا المنظورة أمام القضاء. رئيس مجلس الدولة السابق، أشار إلي أن القوانين الخاصة بالإجراءات تسري بأثر مُباشر أي أنه يُمكن للمُتهمين استدعاء شهود ويكون من حق المحكمة أن ترفض سماعهم في أي قضية أخري لا تتعلق بالإرهاب". مُعتبراً أن هذا القانون لن يكون له تأثير سلبي أو إيجابي علي طول أو قصر فترات التقاضي أمام المحكمة، يؤكد الدكتور جمال جبريل، أُستاذ القانون العام بجامعة القاهرة، إمكانية إلغاء الأحكام التي تُصدرها المحكمة في درجات التقاضي الأعلي إذا ثبت أن هناك خللاً في حق الدفاع خلال نظر القضية بدرجات التقاضي الأولي، وقال جبريل: "في بيان وجه الحق بالدعوي إن لم تستدع المحكمة رأي الشهود، من الممكن اعتبار هذا إخلالاً بحق الدفاع، وعلي أساسه تقوم محكمة أخري بإلغاء الحكم الصادر بحق المُتهمين". عميد كُلية الحقوق بجامعة القاهرة سابقاً، الدكتور محمود كُبيش، أعلن رفضه لتلك التعديلات الأخيرة، مضيفاً أن المشروع معيب دستورياً فيما يتعلق بشهادة الشهود، ولايمكن إقراره، ويُمثل إجحافاً بحقوق المُتهمين، وافتراءً علي العدالة. كبيش، أشار إلي أن مشروع القانون علي شكله الحالي يضُر بثوابت العدالة، ويخل بحق أصيل من حقوق الدفاع، خصوصاً أن المُحامي غالباً ما يستند إلي شهادة الشهود، موضحاً أن التعديلات المطروحة حالياً، لاتتفق مع الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي وقعتها مصر. الخبير القانوني، أستاذ القانون الدستوري، الدكتور محمد الذهبي، يؤكد أن إقرار هذا القانون أمر خاطئ فشهادة الشهود من المُمكن أن تُغير مصائر مُتهمين، وإذا لم يسمع القاضي لكلام الشهود الذين يمتلكون معلومات هامة عن القضية قد يكون حكمه خاطئا، مُشيراً إلي أن هذا الكلام ليس جديداً فمُنذ القدم والقاضي الجنائي له أن يُقرر عقيدته كما يشاء، لكن دون إجحاف حق المُتهمين في الدفاع عن أنفسهم بشتي السُبل، مُضيفاً أن هذه الشهادات تحمل وجهين، ويحق للخصم أو المتهم الطعن في الأخذ بأقوال الشهود عندما يكونون سبباً في إدانته، أي أن الشاهد سيصبح أداة نفي أو إثبات في نفس الوقت، مُشيراً إلي أن هذا التعديل وراءه أهداف سياسية، مُشدداً علي أن شهادة الشهود تُعد رُكناً رئيسياً بالمحاكمات، ومن مبادئ القانون الأساسية، وإلغاؤها يعتبر افتراء علي القانون، مُشيراً إلي أن شهادة الشهود تعادل في أهميتها تحريات المباحث عن القضية، منوهاً بأن من حق المحامي طلب سماع الشهود ومن حق القاضي أن يقبل أو يرفض، أما مسألة حرمان الدفاع والمتهمين من هذا الحق نهائياً فإنه أمر غير مقبول، وقد يؤدي إلي تضليل العدالة، الأمر الذي لا يُرضينا أن يحدث في مصر بعد ثورتي 25 يناير، و30 يونيو.