لقاءات فى محافظة المنيا لتوعية المرأة بمكافحة الإرهاب مسئولو المنظمات يتهمونني بالجنون.. لكنني لن أتراجع عن فكرتي الإنسانية الموت يقف علي عتبات بيوتهم. من دون استئذان يقتحم حياتهم.. يلوِّنها بالحزن ويقتل ما تبقي لديهم من أمل بعد رحيل أعز الناس. هكذا حال أسر ضحايا الإرهاب، الذين يتساقطون يومياً في مشاهد مروعة تصوغها جماعات العنف المسلح بمداد الرصاص والتفجير والدم، منذ الإطاحة بنظام الرئيس الإخواني محمد مرسي في 3 يوليو من العام الماضي. ربما هذا ما دفع فتاة إلي خوض تجربة إنسانية فريدة في التواصل مع أهالي الشهداء ومواساتهم، علي طريقتها الخاصة، بعد فكرة بسيطة أطلقتها علي موقع "فيسبوك" تحت عنوان "مصريات ضد الإرهاب"، وحققت رواجاً واسعاً. منال لطفي شابة مصرية امتهنت الكتابة في بعض الصحف الدولية قبل أن تصدمها بشاعة العمليات الإرهابية المتلاحقة التي تشهدها البلاد وما تخلفه من دمار وموت لرجال الشرطة والجيش، ونفوس منكسرة لأمهات ثكلي وزوجات ترملن وأبناء يُتموا من دون ذنب، فتقرر منال أن تهجر فعل الكتابة والتدوين وتنزل إلي الشارع، لا لتشارك في التظاهرات أو الوقفات الاحتجاجية المنددة بالإرهاب، بل لتقوم بزيارات متعددة تكاد تكون شبه يومية إلي ذوي الشهداء في بيوتهم، مهما كانت بعيدة في قري أو نجوع أي محافظة.. تقدم واجب العزاء وتشد من أزر أمهات وزوجات الأبطال وتمسح الدموع عن وجوه الصغار. التقيت منال صبيحة أحد أيام الأسبوع الماضي، فيما كانت تهم للسفر إلي أسرة شهيد جديد، فهذا هو همها اليومي، ونشاطها الذي دأبت عليه منذ نحو تسعة أشهر. علي عجلة تحدثت إليها بشأن فكرتها التي أطلقت عليها "مصريات ضد الإرهاب". قالت منال: الفكرة برقت في ذهني مع بداية اشتعال جذوة الإرهاب الأعمي الذي ضرب البلاد في أعقاب ثورة " 30 يونيو" وعزل الرئيس السابق محمد مرسي، حيث نفذت الجماعات الإرهابية العديد من العمليات التي اكتوي بنارها كل مصري. تتابع: تيقنت أن الإرهاب إخطبوط بألف ذراع إن لم نقض عليه فسوف يقضي علينا، ومن هنا قررت أن يكون لي دور في مواجهته وكسر شأفته، فكانت فكرتي التي بدأتها بتدشين صفحة علي موقع التواصل "فيسبوك" باسم "منظمة مصريات ضد الإرهاب"، وسرعان ما أحدثت الصفحة صدي واسعاً، وتفاعل الكثيرون معها، وانهالت الأفكار والمقترحات علي الصفحة، فثمة من اقترح تنظيم وقفات احتجاجية وسلاسل بشرية، بينما ذهب آخرون إلي ضرورة تنظيم ندوات وفعاليات لتوعية الناس بمخاطر الإرهاب والتستر عليه. وبالفعل، نفذت منال بعض هذه الأفكار المقترحة وبخاصة ما يتعلق بالندوات والمؤتمرات، وتحديداً في خلال شهر أكتوبر الماضي الذي يعد شهر الانتصارات المصرية، وبدأتها كما تقول من قصور ثقافة الجيزة، لافتة إلي أن هذه الفعاليات كان لها أثر جيد للغاية، ما دفعها إلي مزيد من الجهد لاستكمال النشاط مع عدد آخر ممن استحسنوا الفكرة. اقتصار اسم المنظمة - غير المشهرة قانوناً حتي الآن - علي كلمة "مصريات" وليس "مصريين" عموماً، أثار علامة استفهام لديّ، لكن صاحبة الفكرة أوضحت السبب بقولها إن المرأة هي التي تحملت فاتورة الإرهاب وعانت جراء غياب زوجها وابنها وأخيها في مهام من أجل الوطن، وهي التي انتظرت عودته، فإذا به يعود قتيلاً أو جريجاً. أم الضابط أو المجند تتحمل كثيراً من ألم الفقد، وكذلك زوجته التي تتحمل عبء غيابه عن المنزل ثم تتحمل عبء غيابه عن الحياة، فتسدد فاتورة الإرهاب، وتعيش تربي أبناءها وحيدة مقهورة عليه. ولذا رأيت أن تكون المرأة في صدارة الفكرة، وعلي رغم هذا الاسم "مصريات ضد الإرهاب" إلا أن معنا رجالا مؤمنين بالفكرة ومتحمسين لها. عدد المنضمين إلي المنظمة كبير لكن لا إحصاء محدد تم حتي الآن، فقط يمكن التأكيد علي وجود أعضاء من فئات عمرية متفاوتة، وشرائح اجتماعية مختلفة، كما أن المنظمة مازالت رغم نشاطها الواسع، تنطلق من مجرد صفحة إلكترونية علي شبكة الإنترنت، وربما بحسب ما تقول منال تضم عشرات الآلاف من الأعضاء حين يتم تقنين أوضاعها، وإن كان الأمر يتطلب الكثير من الإجراءات، ويبقي انعدام الموارد المالية عائقاً أساسياً، في سبيل ذلك، فمنال ذاتها مازالت تتولي مهام إدراة الصفحة علي "فيسبوك" والرد علي استفسارات المشاركين لعدة ساعات يومياً، ما يكلفها وقتاً ويكبدها جهداً، لكنها علي الرغم من كل ذلك تمارس هذه المهام بسعادة غامرة، ومن دون كلل. وفي حين تنفي منال اعتماد الفكرة علي تلقي أي تمويل من أية جهة داخلية كانت أو خارجية، مؤكدة أنها محض عمل تطوعي خالص، فإن الفكرة لها مآرب شتي، تسعي مؤسسة الصفحة إلي تحقيقها، لعل أبرزها مقاومة ومكافحة أشكال الإرهاب، والوصول إلي مجتمع يأمن فيه المواطن المصري علي نفسه وماله وعرضه، وأضحي لها الآن هدف أسمي يتطلع إليه أعضاء الصفحة، هو رعاية أسر ضحايا الإرهاب من المصابين أو الشهداء، وبخاصة الفقراء منهم، فهذه الأسر تحتاج إلي رعاية مادية ونفسية واجتماعية. وفي شأن التواصل المباشر مع ذوي الضحايا، توضح صاحبة الفكرة: زرنا معظم ضحايا الإرهاب في مصر، ومن بينهم أسر ضحايا تفجيري مديرية أمن الدقهليةوالقاهرة، وشهداء الطائرة العسكرية التي أسقطتها عناصر إرهابية في سيناء، والمجندين وأمناء الشرطة الذين استشهدوا في عمليات ارهابية.. إلخ، ذهبنا إلي قراهم في المحافظات، وقدمنا واجب العزاء في هؤلاء الشهداء، الذين ضحوا بحياتهم في سبيل الوطن. في ذاكرة منال سجلات حافلة بالقصص الإنسانية الصعبة، التي ترصدها في كل زيارة تقوم بها إلي أسرة أحد شهداء الجيش أو الشرطة. تقول: أكثر ما أوجعني أن كل شهيد يترك خلفه أسرة لا تجف دموعها علي فراق ابنها، أذكر مثلاً حين زرت أسرة شهيد تفجير مبني المخابرات العسكرية في الإسماعيلية، حسن حمدي أبو تلاتة (22 عاماً)، من قرية "الإخيوة" بمحافظة الشرقية، حيث وجدت أن أسرته تعاني من فقر شديد، ويعمل والداه علي عربة "كارو"، وكان الشهيد يدخر المال من عمله في أيام إجازاته، وقبل التحاقه بالخدمة العسكرية علي أمل أن يرسلهما إلي السعودية لأداء فريضة الحج، لكن شاء القدر أن ودعاه عند قبره، واكتفي والده المكلوم بعبارة تدمي القلوب: "انتظرت ابني ليعينني علي مر الحياة.. وحين عاد تسلمت جثته متقطعة ثلاث قطع". تتدفق الحكايات الحزينة كأبجدية موت لا تعرف نهاية. وتتذكر منال حين زارت أسرة شهيد الجيش المسحول في سيناء المجند "السيد عليوة" شهيد الصاعقة، إذ تقول: بكيت حين رأيت حالة أمه التي لا تتوقف عن البكاء، وتأثرت برؤية زوجته الشابة الصغيرة التي لم تكمل عامها التاسع عشر، وابنته ذات الستة الأشهر، ومصير مجهول في عيون الجميع التي لم تفارقها الدموع. فيما قال عم الشهيد: وجدت جثمان ابن أخي مشوهاً من فرط سحله في قرية المهدية برفح. تواصل منال: من القصص التي تابعتها عن قرب وأبكتني، قصة إصابة المقدم وائل فريد، الضابط بإدارة البحث الجنائي، والذي أصيب في حادث تفجير مديرية أمن القاهرة، وفقد حاسة السمع في أذنه اليسري، جراء شدة الانفجار، وحين سألته: هل سيهزمنا الإرهاب؟ قال: "لا" وتابع: كل ما يحزنني هو خوف ابنتي الصغيرة ذات الخمس سنوات مني، فكلما تنظر نحوي تصرخ خوفاً من وجهي الذي تشوه جراء الحادث. إحدي القصص المؤثرة أيضاً جاءت علي لسان أم أحد شهداء القوات المسلحة وهو مجند من قرية "المانسترلي" بمحافظة الشرقية، يدعي عبدالرحمن حسيني (22عاماً)، وهو أحد ضحايا الحافلة التي انفجرت فيها سيارة أثناء نزول المجندين إجازة، في شمال سيناء واستشهد في هذا الحادث 11 مجنداً، وأصيب 35 آخرون، وقالت أمه لي: "إبني كان لسة خاطب.. ومالحقش حتي يشوف صور الخطوبة". الحديث يأخذنا إلي مسألة تقنين عمل هذه المنظمة، للاستفادة من الفكرة ونشر الثقافة التي تنهض عليها، وهي زيارة أسر ضحايا الإرهاب ومواساتهم ومحاولة تقديم المساعدة إليهم، وبخاصة أهالي المجندين الفقراء، وفي هذا الصدد تقول منال: نحن بالفعل بصدد هذه الخطوة وتقدمنا بأوراق الإشهار إلي الجهات المسؤولة، واستأجرت شقة في مدينة "السادس من أكتوبر" لتكون مقراً للمنظمة بعد إشهارها، فلابد لهذا العمل التطوعي أن يتم في إطار قانوني حتي يؤتي ثماراً أعظم. في السياق تكشف منال عن سبب تأخر عملية الإشهار، ملقية العبء علي جماعة "الإخوان" الإرهابية، ولهذا قصة: واجهت عقبات عِدة، لم تكن مادية فقط، بل إنني تعرضت للخيانة من محام اتضح فيما بعد أنه منتم لجماعة "الإخوان" بل إنه أحد فريق الدفاع عن الرئيس المعزول محمد مرسي وهو سبب تعطيل الإجراءات، حيث كنت قد أجريت له توكيلاً للقيام بهذه الإجراءات، قبل ثلاثة أشهر تقريباً، لكنه أخذ يتهرب مني، وحين واجهته عرفت بانتمائه الإخواني وأبدي استياءه من فكرة المنظمة، وهنا ألغيت التوكيل، وبدأت حالياً في إعادة الإجراءات من جديد. اندهشت من النشاط الذي تقوم به منال لطفي رغم عدم وجود جهة تدعمها، وكنت أردد في نفسي: "ماذا لو اشتغلت المنظمات الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني بنفس طاقة هذه الشابة؟"، بالتأكيد لو حدث ذلك لاختلفت الأوضاع كثيراً، فالنزول إلي الشارع والاقتراب من أصحاب المآسي يجدي نفعاً مقارنة بالندوات والمؤتمرات التي تعقد في فنادق ال"فايف ستارز" بحضور مشاهير ورموز مجتمع في كثير من الأحيان لا يعرفون شيئاً عن معاناة فقراء مصر وأبطالها الشهداء. أما منال فتقول: أصحاب هذه المنظمات يندهشون من عملي التطوعي أنا وأعضاء "مصريات ضد الإرهاب" بل ويتهمونني في كثير من الأحيان بالجنون، لكن هذا الكلام لا يؤثر في وسأعطي لضحايا الإرهاب كل وقتي وجهدي ومالي.