تجمّع الأهالى بعد المساء بأضواء كاشفة، عشرات المتطوعين قاموا بنقل المصابين، وثلاث جثث، إلى الطريق الأسفلتى المجاور لشريط القطار، أو على حافة الزراعة، بقع الدم منتشرة هنا وهناك، البحث لا يهدأ.. «أمانى بنت عم عزت رزق ضمن الموتى» صاح أحدهم، فقد الأب ابنته التى كانت قد «كتبت كتابها» منذ شهرين تقريباً عندما أتمت عامها ال18 تستعد هذه الأيام لحفل عرسها يوم الخميس المقبل، كانت تشترى بعض المستلزمات وتستأجر فستان الفرح من الفيوم، لكنه الأجل، توفيت العروس الشابة التى كانت تستقل القطار 153 عائدة إلى بيتها. كل شىء تم على عجل، أوامر الدفن صدرت لأهلها سريعاً؛ إذ لم تكن هناك شبهة جنائية، وصلت شريهان إلى قريتها أخيراً، لكنها وصلت جثماناً على لوح خشبى فى كفنها الأبيض، ومن مسجد الخير، حيث صلى عليها الأهالى صلاة الجنازة، انتقل جثمان العروس المتوفاة إلى قبور القرية؛ حيث تم دفنها، فى الليلة التى ماتت فيها شريهان، أو أمانى وهو اسمها الرسمى، كانت قد أتمّت كل شىء يخص الفرح، لوازم الكعك موجودة، الفستان إيجاره مدفوع، الجهاز اشتراه لها أبوها كبنات أعمامها يرفع رأسها بين الناس فى العالى، غير أن القدر لم يكن لينصفها أو يتمم ما أرادت إتمامه. «الوطن» انتقلت إلى منزل الضحية فى عزبة مِرعب بقرية الناصرية، مركز الفيوم، طابق واحد يومئ لحال الأسرة المتواضع، طابق واحد حزين، لفه الحزن أكثر بموت الابنة الكبرى فى حادث القطار، ساكنوه كانوا على وشك الفرح، فلم تكتمل فرحتهم، ما بين أب مكلوم وأم ثكلى تنتحب ألماً على فقدان ابنتها العروس لا تردد إلا «يا أمانى.. يا أحمد» فيزداد نحيبها، منذ عامين «فقدت الأسرة ابنها الأكبر «أحمد» الذى توفى بعد العيد بأيام، عندما أتم عامه الثامن عشر، لما أمسكت بجسده الكهرباء، أثناء عمله فى القاهرة» يقول جمعة فوزى، أحد أقارب الضحية، ظروف مشابهة لموت الابنة العروس أمانى، وحزن مماثل، أو ربما مضاعف. إلى جوار جهازها اجتمعت النسوة يواسين أمها، لا تنطق هى إلا منادية ابنتها، يزداد النحيب أكثر، تتدخل النسوة أكثر بالمواساة، تهدأ الأم، أو تتعب، ثم تواصل بكاء ابنتها الفقيدة، الأب متمالك بعض الشىء، غير أنه انهار باكياً عند عرضه جهاز ابنته. شريهان أو أمانى هى الشقيقة الكبرى لرحمة (9 سنوات)، وأحمد (سنتان)، وأمنية (4 شهور). الأم قضت ليلتها فى نحيب على «شريهان»، و«أحمد» أخيها الذى توفى فى حادث منذ عامين «قالت لى سأتجه إلى الفيوم لشراء أغراض تخصنى.. مسكينة أمانى، لم يكن لها نصيب فى الفرح»، هكذا تحدث جمعة رزق سليم، (45 سنة) مدرس وعم الضحية، التقى العم بابنة أخيه العروس فى صباح يوم الحادث، وأخبرته أنها ذاهبة إلى الفيوم، أكد عليها أن تشترى كل ما يحلو لها. «والدها رجل على باب الله، لم يكن لديه الوقت الكافى لمعرفة كل ما تحتاجه فى الأيام الأخيرة قبل العرس بسبب انشغاله فى المعيشة وعمله كمزارع، لم يكن يعرف أحدهم عن أمانى إلا طيب الخلق، والالتزام، والمحافظة على الصلاة، وكانت تنتظر يوم زفافها بفارغ الصبر حتى تستقر فى منزلها البسيط مع زوجها أشرف جمعة عبدالكريم، الذى عُقد قرانه عليها منذ شهرين». فى السادسة، تلقّى جمعة اتصالاً.. «ظننت خال أمانى، الأستاذ سامى يوسف، سيتحدث فى شىء عن الفرح، وتدابيره، لكنه أنبأنى بوقوع حادث ووفاة أمانى.. ساعة أو أقل كنت أمام جثتها إلى جوارها تبعثرت أغراضها وملابسها التى كانت قد اشترتها من الفيوم للانتقال بها إلى بيت عريسها». أما أدهم رزق، عم الضحية، فيقول: «نؤمن بقضاء الله وقدره، ولا نريد إلا مزلقان بقرية الناصرية حصلنا على إذن ببنائه منذ 10 سنوات، لا نطالب إلا بمحاسبة المسئول عن فقدان ابنتنا لحياتها، ببساطة لا نريد إلا حقنا بما يرضى الله، وفوضنا أمرنا إليه». يقول محمود رفعت، (27 سنة)، من أهالى قرية الناصرية: «والد الفتاة، العروس التى توفيت فى الحادث، رجل بسيط فلاح على باب الله، كان يجتهد لسنوات كى يتمكن من شراء جهاز لابنته لا تكون فيه أقل من قريناتها وبنات أعمامها، حتى إنه باع منزله البسيط، واستأجره لكى يكون لديه ما يكفى من المال لتجهيزها، لكنها لم تهنأ بما جهزه لها أبوها، رحمها الله، وألهمه الصبر». «أخو أمانى شريهان توفى هو الآخر فى حادث إهمال كان ذلك منذ سنتين حيث كان يعمل فى أحد المطاعم بالقاهرة، وطلب منه صاحب المطعم إصلاح عطل ما فى الكهرباء فأمسكت الكهرباء بجسمه حتى أنهت حياته، وإهمال السكك الحديد أخذ البنت الثانية من والدها».. يقول جمعة فوزى، أحد أقراب الفتاة المتوفاة. رفيقات أمانى، العروس المتوفاة، نجين من حادث كارثى ولم تنج هى، من بين المصابين كان أحد أخوالها عبدالناصر عبدالقادر، (56 سنة)، الذى استلقى على فرشة بمنزله بعد خروجه من المستشفى إلى المنزل.. «كنت أتحدث مع نسيبى فى بعض الأمور، وفجأة سمعت ضجة كبيرة تزامنت مع طيران كل شىء، كل من كان على كرسيه طار من عليه، وعندما اصطدمت رأسى بأحد الكراسى رحت فى غيبوبة، وأحسست كأن الكهرباء قد أمسكت بجسدى، لم أدرِ بعد ذلك ما الذى حدث، عندما خرجت وقد قالوا إن حالتى لا تحتاج إلى وجودى بالمستشفى، سألت عن أمانى ومن كن معها، فعرفت أن أمانى قد اختارها ربّها، ربنا يلهم أختى والدة العروس المتوفاة الصبر، ويسكن ابنتها الجنة، فليس لنا إلا الصبر».