«وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين» .. يفهم الكثيرون من المسلمين بشكل خاطئ تماما هذه الآية ورقمها 14 من سورة النساء. وهم يتوهمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد الحدود معتمدين على واو عطف «رسوله» على «الله» دون اهتمام لأبسط قواعد اللغة العربية، فعندما اتفق ولدى وصديقه - كلاهما - على قول الحق، فإن «كليهما» هنا تؤكد أن كلا من ولدى وصديقه فعلا نفس الفعل. أما الآية «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ» فقد قصرت الحدود على الله سبحانه وتعالى وهو الواضح تماما فى «ويتعد حدوده» والهاء هنا عائدة على الله سبحانه، وليست حدودهما. أما مهمة الرسول فهى مقصورة - فحسب - على نقل الرسالة، وهى هنا حدود الله وحده لا شريك له. وهو ما يتضح بجلاء شديد فى هذه الآية الرقم 54 من سورة النور: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ» .. فالطاعة واجبة لله جل وعلا ولرسوله فيما أبلغكم به نقلا عن الله، ذلك إن هاء «تطيعوه» عائدة لله سبحانه. وعليه تنتهى الآية بتحديد مهمة الرسول بالإبلاغ الواضح الذى لا لبس فيه «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ» . وهذا هو ذاته نفس المفهوم من الآية 29 من سورة التوبة: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ». فالجزية هى أمر الله جل وعلا والبلاغ المبين به مهمة رسوله عليه الصلاة والسلام. وهنا يصبح ضروريا التفرقة بين نبوة محمد ورسوليته. فَإِنَّ النُّبُوَّةَ مِنَ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ، فَالنَّبِى فِى الْعُرْفِ: هُوَ الْمُنَبَّأُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ بِأَمْرٍ يَقْتَضِى تَكْلِيفًا، وَإِنْ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ رَسُولٌ، وَإِلَّا فَهُوَ نَبِى غَيْرُ رَسُولٍ؛ وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، بِلَا عَكْسٍ، فَإِنَّ النَّبِى وَالرَّسُولَ اشْتَرَكَا فِى أَمْرٍ عَامٍّ، وَهُوَ النَّبَأُ، وَافْتَرَقَا فِى الرِّسَالَةِ، فَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ رَسُولٌ، تَضَمَّنَ أَنَّهُ نَبِى رَسُولٌ. وَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ نَبِى لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنَّهُ رَسُولٌ». ويؤكد المولى سبحانه فى كتابه الكريم - الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - فى الآية الرقم 11 من سورة الكهف: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). وتفسيرها «قل - أيها الرسول الكريم - للناس، مبينا لهم حقيقة أمرك، بعد أن بيّنت لهم عدم تناهى كلمات ربك. قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم أوجدنى الله - تبارك وتعالى- بقدرته من أب وأم كما أوجدكم، وينتهى نسبى ونسبكم إلى آدم الذى خلقه الله - تبارك وتعالى - من تراب. ولكن الله - عز وجل - اختصنى بوحيه وبرسالته، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأمرنى أن أبلغكم أن إلهكم وخالقكم ورازقكم ومميتكم، هو إله واحد لا شريك له لا فى ذاته، ولا فى أسمائه، ولا فى صفاته. فعليكم أن تخلصوا له العبادة والطاعة، وأن تستجيبوا لما أمركم به، ولما نهاكم عنه، فإنى مبلغ عنه ما كلفنى به. هذا المعنى ذاته يتكرر فى الآية 52 من سورة النحل: (وَلَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ). فالدّين: الطّاعة والانقياد لله تعالى وحده، واصبا: دائما واجبا لازما أو خالصا. والتفسير: ولله كل ما فى السموات والأرض خلقًا وملكًا وعبيدًا، وله وحده العبادة والطاعة والإخلاص دائمًا، أيليق بكم أن تخافوا غير الله وتعبدوه؟!. لكن كون محمد بن عبد الله نبيا، تعطى له مقاما خاصا عند المولى سبحانه وتعالى والملائكة، ولذلك يصل قدره صلى الله عليه وسلم إلى الدرجة التى يدعو فيها الله المؤمنين إلى الصلاة والسلام عليه، ذلك أن الله وملائكته يصلون عليه. وفى الآية 56 من سورة الأحزاب نقرأ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). والصلاة من الله وملائكته - تختلف عن صلاتنا نحن لله - فهى هنا بمعنى ثناء الله سبحانه على عبده فى الملأ الأعلى، ثناؤه عليه وذكره بأوصافه الجميلة عند الملائكة، هكذا صلاة الله على عبده وتطلق الصلاة من الله على عبده بأنها الرحمة وهذا هو معنى الصلاة لدى العرب الأقدمين، كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ.. (43) سورة الأحزاب، أى يرحمكم ويثنى عليكم سبحانه وتعالى، فثناء الله على عبده عند الملائكة هو ذكر أوصافه الجميلة العظيمة، هذه صلاة الله على عبده، ويدخل فيها أيضاً رحمته لعباده وإحسانه إليهم سبحانه وتعالى، والملائكة صلاتهم الدعاء، دعاؤهم للمصلى عليه وترحُّمهم عليه وثناؤهم عليه هذا يقال له صلاة، كما فى الحديث: الملائكة تصلى على أحدكم ما دام فى مصلاه تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه. فصلاتهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعاؤهم له عليه الصلاة والسلام، ونحن مأمورون بأن نصلى عليه، عليه الصلاة والسلام. وإلى مزيد من تدبر آيات القرآن الكريم فى الأسبوع المقبل، إن كان فى العمر بقية، لإيضاح جلى لمواطن الإعجاز فى هذا الكتاب الكريم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.