عائشة المراغي «... تحرك القطار فأغمضت عينيها، وترنحت قليلاً، وفى هذه اللحظة القصيرة احتشدت فى ذهنها ذكريات جميلة، ومرت بها صور حياة بأسرها، بما فيها من مباهج وأحزان ومسرات وآلام، وتذكرت كارنين......». إنه مجرد مقطع مجتزأ من «آنا كارنينا» للكاتب الروسى ليف تالستوي، يمكنك أن تقرأه داخل الرواية – بتلك الترجمة لصبحى سلامة، أو بترجمات أخرى، أو بلغته الأصلية فى حال إتقانك لها – إن كنت تعانى من ألم فى أسنانك! ليست الأسنان وحدها ما يمكن علاجها برواية، وإنما هناك 751 رواية تنصح بها كل من «سوزان إلدركين» و«إيلا بيرثود» فى كتابهما «العلاج بالرواية: من الهجر إلى فقدان الشهية» الصادر عام 2013، متضمنًا خلاصة خبرة وبحث على مدار سنوات طويلة تعدت ال 25 عامًا؛ كل منها يعالج وجعا ما، جسديا أو روحيا؛ فالأرق تعالجه «اللاطمأنينة» لفرناندو بيسوا، والخوف من الموت «مائة عام من العزلة» لماركيز، والشجاعة يمكن اكتسابها ب «لا تقتل طائرًا بريئًا» لهاربر لي، والإفلاس علاجه «جاتسبى العظيم» لفرانسيس فيتزجيرالد، والسِمنة «الصرخة الآتية من بعيد» لريتشارد شريدان، أما الإنفلونزا الحادة فعلاجها «البؤساء» لفيكتور هوجو، وغيرها الكثير. «إن مهمتك ليست البحث عن الحب! بل، البحث بداخلك عن تلك الجدران والحواجز التى تبقيه بعيدا عن روحك». الرومي على غرار «سوزان» و«إيلا»؛ بدأ الناشر ورجل الأعمال البريطانى «ويليام سيجارت» فى إعداد سلسلة كتبه «صيدلية الشعر» منذ 2017، ليصدر منها أربعة أجزاء، تحمل جميعها شعار «وصفات طبية مجرَّبة وحقيقية؛ للقلب والعقل والروح» وفيها يقدم وصفات شعرية تداوى الجراح النفسية والروحية، مثل الحزن، والقلق، والانهزامية، والغضب، والكسل، والاكتئاب، واللامبالاة، والفشل، وغيرها، اختارها لشعراء من مختلف العصور والجنسيات واللغات، لتكون دليلًا للعثور على الشعر الذى يمكن أن يكون مفيدًا لكل حالة عاطفية، من بينهم الإنجليزى «روديارد كبلينج»، الأمريكى «والت ويتمان»، اليابانية «إيزومى شيكيبو»، الأسكتلندى «جون بيرنسايد»، اللبنانى جبران خليل جبران، الفارسيان جلال الدين الرومى وحافظ الشيرازي، وآخرون. كتابا الرواية والشعر يمكن إدراجهما ضمن علم «الببليوثيرابيا» أو «العلاج بالكتب»، المعتمد على استخدام القراءة كوسيلة للمساعدة فى تحسين الصحة النفسية والعاطفية، وهو ليس حديثًا، فقد بدأت أبحاثه منذ خمسينيات القرن الماضي، والاعتراف به رسميًا ضمن علوم الطب النفسى عام 1966، لكن استخدامه بدأ قبل ذلك بسنوات طويلة، إذ اعتمده الإغريق فى أساليبهم العلاجية، وتحدَّث عنه عدد من فلاسفة اليونان كأرسطو وأفلاطون، بينما أشار د. شعبان خليفة فى كتابه «العلاج بالقراءة» إلى أن الإغريق نقلوه عن المصريين القدماء، الذين أدركوا أهمية الكتاب وأثره، سلبًا وإيجابًا، فى قدرة الفرد على الاستشفاء، وذلك يمكننا الاستدلال عليه كذلك من نقوش المكتبات المصرية القديمة فى المعابد، والمكتوب على جدرانها «هنا علاج الروح» و«هنا علاج النفس». وخلال القرن الثامن عشر؛ بدأت القراءة فى الظهور كجزء من لوحات الفنانين عالميًا، كفعل مصاحب للحالة التى يرصدها العمل، مثل لوحة «فتاة تقرأ» للرسَّام الفرنسى «جان هونورى فراغونارد» تعود لعام 1769، و«امرأة من آرل» 1883 للهولندى «فان جوخ»، و«دودة الكتب» للرسام والشاعر الألمانى «كارل شبيتزفيج»، و«كأنك تقرأ المجلد التالي» خلال نفس الحقبة لليابانى «أوتاغو كونيوشي»، وكذلك «القارئة» عام 1876 و«المرأة القارئة» 1900 للفرنسى «أوجست رينوار»، وغيرها. كان الطبيب والسياسى «بنيامين رش»، فى بدايات القرن التاسع عشر؛ أول من أجرى أبحاثا حول استخدام الأدب فى العلاج النفسي، ونصح مرضاه بالتوجه لمكتبة المستشفى وممارسة القراءة تعجيلًا للشفاء، وبعد قرن – تقريبًا – أخذت أمينة المكتبة «كاتلين جونز» تعِّد برامج للعلاج بالقراءة، وكانت أول من طالب بضم «الببليوثيرابيا» إلى فروع علم المكتبات. الكاتب والطبيب النفسى د. خليل فاضل، من القلائل الذين يتبعون هذا الأسلوب من العلاج فى مصر، ولذلك تجد أرففًا فى عيادته تحمل كتبًا أدبية، ومقالات له ولغيره من الكتَّاب، ويوجِّه مرضاه لبعض القراءات، سواء فى الشعر أو الرواية أو القصة القصيرة، لمن لديه صبر منهم بالطبع، خاصة من الجيل الجديد، يقول: «العلاج بالقراءة أن يختار المريض ما يراه ويفسره حسب رؤيته، حتى لو كانت «الأرض الخراب» لإليوت أو عمل آخر لشكسبير، يسألنى فيه، أو أطلب منه مهمة ينفذها، خاصة من يعانون من القلق، وهم كُثر فى مجتمعنا. دائمًا أنصح بقراءة السير الذاتية، حتى لو كانت «كفاحي» لهتلر، لأنها تحوى مشاهد من السقوط وعدم الثقة بالنفس وكيفية مواجهتها». يتذكر فاضل إحدى الحالات التى مرَّت عليه لشاب مهندس فى بداية عقده الثالث، كان يعانى من تنمر شديد فى كل مكان منذ الصغر، وأصابته سيارة فى حادث فأضعفت ثقته تمامًا، يضيف: «بعدما عبرنا مرحلة من العلاج بدأت أوجهه للسير الذاتية، مثل غاندي، أو قراءة شعر لطاغور، وكان يحب جدًا أن يقرأ فى كتب لها علاقة مباشرة بالمعاناة، ولذلك وجهته لدستويفسكي، وكنت خائفًا، لأن أثره يمكن أن يكون عكسيا، فالطبيب المعالج لابد أن يكون على ثقة تامة من أن العنوان الذى يرشحه مناسب للمريض، حتى لا يأتى بأثر عكسي، لأن التأثير يختلف من شخص لآخر، والعلاج النفسى يعتمد بالكامل على شخصيتى المعالج والمتعالج». من العناوين التى يرشحها د. خليل لمرضاه؛ رواية «الرحلة» لأولجا توكارتشوك، ومن السعودية «ترمى بشرر» لعبده خال، فرغم قسوتها لكن لها فلسفة فى دراسة المجتمع وفهمه، ومن الأدب المصرى نجيب محفوظ لما تتضمن أعماله من حكم، ويوسف إدريس، وأشعار نجيب سرور، وأحيانًا حلمى سالم لمن وصلوا إلى مرحلة متقدمة من القراءة، و«زينب» لمحمد حسين هيكل، «دعاء الكروان» لطه حسين، «بنك القلق» أو «حمار الحكيم» لتوفيق الحكيم. وكذلك بعض أعمال شكسبير، وفى أحيان أخرى «ألف ليلة وليلة». وفى الفترة الأخيرة صار يرشح بقوة محمود درويش، ورواية «رأيت رام الله» لمريد البرغوثي، المؤثرة فيه بشكل شخصي. يصف خليل فاضل نفسه ب «المعالج المجروح»، ومن الكتب التى ساعدته على التجاوز والتشافى فى أحيان كثيرة؛ يذكر: «مؤلفات يوسف إدريس التى أقرأها منذ كنت طالبًا فى المرحلة الثانوية، وكذلك شعراء الأرض المحتلة، وخاصة محمود درويش، تساعدنى قراءة قصائده بصوت عال على تخطى أزماتي، وعبد الوهاب البياتي، وأمل دنقل، وبحكم وجودها فى مكتبة والدى كنت أقرأ المنفلوطي. لكن الكتب التى ساعدتنى هى المتخصصة فى الأدب التاريخى والسير الذاتية، مثل «مزرعة الحيوان» و«1984» لجورج أورويل، ومؤلفات ل «جورج برنارد شو» و«ليدى جريجوري» قرأتها خلال الفترة التى عشتها فى أيرلندا. وفى مصر قرأت لنجيب محفوظ فى فترات تالية، لكن من أثر فيَّ بشكل كبير رغم اختلافى معه فيما بعد هو محمد حسنين هيكل، إذ كان والدى يفرض عليَّ قراءته يوم الجمعة من أجل إتقان اللغة. أما بدر شاكر السياب فيرطب روحي، وكذلك نازك الملائكة، وعباس بيضون من لبنان، وصادق جلال العظم من سوريا، وسعدالله ونوس فى المسرح». يضيف الشاعر إبراهيم داود إلى القراءة روافد ثقافية أخرى، كالكتابة والموسيقى والسينما؛ تعينه على مقاومة الأزمات بشكل عام والتغلب على لحظات الإحباط والحزن، وفيما يخص الأدب يقول: «حين أمرّ بأحوال صعبة أميل لقراءة بعض الأدباء، على رأسهم فى الروائيين «همنجواي» و«دستويفسكي»، لأن شخصياتهما دائمًا على حافة الخطر، ويظهر فيها كيفية تغلبهم على تلك المعضلات فى العلاقات الإنسانية. أما الشعر ففيه كُثر، قديم وجديد، عربى ومترجم من لغات أخرى؛ من أبرزهم بالنسبة لى كفافيس ورامبو ومحمود درويش وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي، أحبهم وأحِّب عالمهم ومفاجآتهم كمبدعين، كما أميل إلى القراءة فى التصوف؛ عن كرامات الأولياء وتصوف الشعرانى ورسائل القشيري، بالإضافة إلى سماع الموسيقى والأغاني، أو القرآن بصوت الشيخ الشعشاعي». يميل الكاتب إبراهيم عبدالمجيد، فى أوقات المِحن؛ إلى مشاهدة الأفلام بشكل أكبر، حتى لو قديمة، وسماع الموسيقى. لكنه لا ينفى أن هناك قراءات كثيرة جدًا غيرت فى حياته وتركت أثرًا، يتذكر: «معظم روايات دستويفسكى كانت حالة علاج وانفتاح على الدنيا بشكل مختلف، قرأتها من سن 16 إلى 20 سنة. ورواية «صحراء التتار» للإيطالى دينو بوتزاتى كان لها تأثير على حياتى وسعادتي». أما الروائية سلوى بكر، فلا تميل لذلك إطلاقًا فى وقت المِحن، ولا تتذكر أنها لجأت إلى كتاب ليخفف من حدة شعورها فى مأزق إنسانى بشكل أو بآخر، أيا كان نوعه، تضيف: «الأخوة فى الغرب لديهم مهارة عالية جدًا فى تسويق الأفكار وبيعها، ولذلك نجد لديهم بكثرة تلك النوعية من الكتب، التى يتم إعدادها بمستوى متميز، لتخاطب شريحة من القراء، لديهم قدر من التعليم والثقافة الجيدين؛ ترتكز أساسًا على فكرة تسليع الأدب، فالألم عمومًا سواء جسديا أو روحيا، موضوع معقد جدًا ويعتمد على كيفية تشكُّل الذائقة الإنسانية، ويختلف من شخص لآخر وفقًا لمرجعيات هذا الشخص وموقعه الاجتماعي، ودرجة تعليمه، ودرجة ثقافته، وكيف يتعامل مع آلامه. بالنسبة لي؛ لا ألجأ لمثل هذه الأمور، إن كنت أعانى من ألم نفسى أو وجدانى أو حتى جسدي». تعتبر سلوى بكر أن القراءة للرومى وحافظ صناعة أوروبية نجحوا فى التسويق لها، لكنها تميل لتراثنا العربي، فتقول: «حين أقرأ شعرا؛ أحب المتنبي، وأحيانًا امرؤ القيس، فالموسيقى فى جمله الشعرية فى «رحلة صيد» مثلًا، ترسم لى صورة بصرية عالية جدًا، هذا قد يبهجني. أحِّب جدًا «كفافيس»، و«إيلوار»، و«أراجون»؛ هذا الشعر يشبعني. وفى بعض الأحيان أجدنى فى حالة من الملل، أو الضيق النفسى إن جاز التعبير؛ أعود لكتاب «مصر الرومانية» لنفتالى لويس، وهو كتاب يتعلق بالحياة اليومية فى مصر خلال الفترة الرومانية، حين أقرأه أحِّس كأننى أشاهد فيلمًا ممتعًا قديمًا». الباحث والشاعر فتحى عبد السميع؛ لا يحدد عملًا أو كاتبًا، ولكنه يُجمل ترشيحه فى عبارة «كل كتاب جيد» سواء إبداعياً أو فكرياً، ويضيف: «قراءتى للكتب الجيدة بشكل عام؛ تعطينى قوة عظيمة وقدرًا كبيرًا جدًا من التشبث بالحياة، وتجعلنى أكبر من أى ظروف. كل كتاب جيد يُشعِرنى بذلك ويترك فيَّ هذا الأثر. حين أقرأ – مثلًا – أعمال ماركيز أو هيرمان هسه، وأرشِّح دائمًا كتاب «رسائل إلى الشباب» لهسه للشعراء الأصغر سنًا، ثم بقية الأعمال الشعرية ل «الأسطوات» الكبار سواء فى الشعر العربى أو الأجنبي. لكن يبقى كتاب «المواقف والمخاطبات» للنفرى من أكثر مؤلفات الأدب العربى تأثيرًا فى نفسي، حين أعيد قراءته يمنحنى شعورًا كبيرًا بالقوة، وأحسّ كم أن العالم شاسع، وأن مشاكلنا وأوجاعنا بجانبه صغيرة جدًا، ففى تقديري؛ الأزمة دائمًا تكون فى تضخيمنا نحن للأمور، والجزع الذى يصيبنا عندما يحدث أى شيء». وتتفق معه الناقدة اعتدال عثمان حول فعل القراءة، ولكن بنظرة مختلفة، فتقول: «القراءة تعيننى على تخطى الأزمات بالفعل، ولكن ليس بممارستها مباشرة عند التعرض لموقف صعب، بل بما تمنحه لى من ذخيرة أسلِّح بها عقلي. يعيننى اللاوعى على معالجة الأمور من خلال ما اكتسبته من تجارب تعرفتُ عليها عبر الكتُب، فالقراءة تفتح آفاقًا وبُعدًا أكثر عمقًا لنظرة الفرد إلى الحياة. كما أن هناك أدباء لديهم خبرة نفسية إلى جانب الثقافة، وتشمل نظرتهم للإنسان قدرًا كبيرًا من الرحابة وقبول الاختلاف، فيشعر القارئ معها أن الضعف جزء أساسى من شخصية الإنسان، يتغلب عليه بالتجارب ومواجهة المواقف الصعبة. تلك الذخيرة من القراءة تدله على مواقف شبيهة يستفيد منها عند الاحتياج، وحيوات أخرى أوسع من حياته المحدودة، تتنوع فيها التجارب والمآسى والأفراح، فيتأثر بها نفسيًا وعقليًا ووجدانيًا وذهنيًا دون أن يعيشها». تأثرت اعتدال عثمان – مثل الجميع حسبما تشير – بكبار كتابنا فى الأدب العربى مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وبحكم دراستها للأدب الإنجليزى صارت مطلعة على الأدب العالمى وتوسعت رؤيتها للعالم، إذ تقول: «الأدب العالمى يعطينى أفقًا غريبًا عني، بينما الأدب المحلى يفتح لى دواخل الشخصيات التى أقابلها فى حياتي، لسبر أغوارهم».