«مصر غنية بمفكريها ومبدعيها، فقط تحتاج إلى منظومة تدير هذه الوفرة» قضيت جٌل حياتى الصحفية، إلا سنوات قليلة، فى حقل الصحافة الثقافية، وأقول بنفس مطمئنة أننى لمست عبر هذه السنوات الطوال، وعبر أسفار كثيرة فى شتى أنحاء المعمورة من شرقها إلى غربها، ومن شمالها الى جنوبها، أن قوة مصر الحقيقية، ليست فقط فى جيشها، على قدرته، واحترافيته، وجاهزيته التى تردع أعداءه وتمنعهم من مجرد التفكير فى الدخول معه فى مغامرة غير مأمونة العواقب، ولكنها تكمن أيضا فى ثقافتها وتراثها،ومن هنا فمن يجلس على كرس وزير ثقافة مصر،يجب أن يعرف بداية أهمية وعظمة، وأيضًا حساسية منصبه، لأنه للأسف هناك من جلسوا على هذا المقعد، وذهبوا دون بصمة، ودون أن تدرى الجماعة الثقافية بهم شيئا ، ودون تأثير اللهم إلا إذا اعتبرنا أن عجزهم هو تأثير ولكن بالسلب، بعضهم اعتقد أن دور الوزير يقتصر على افتتاح المهرجانات، وإلقاء الخطب المكتوبة ل «معاليه» والتقاط الصور هنا وهناك، والتحلى بالصمت ثم لا شىء. لا أدعى معرفة شخصية مسبقة بالدكتورأحمد فؤاد هنو الذى تولى حقيبة الثقافة مؤخرا، ولكنى أستبشر به خيرًا من سيرته الذاتية، وأهمس فى أذنه بان التحدى الذى قد يواجهه هو عكس ما قد يواجهه زملاؤه فى مجلس الوزراء، هم يعانون ندرة موارد، بعكسه هو ستكون مشكلتة هي النجاح في إدارة الوفرة، وتعظيمها، فمصر غنية بمفكريها ومبدعيها، فقط تحتاج الى منظومة تدير هذه الوفرة، وهنا تأتى فرصته الذهبية بالتوسع فى التحول الرقمى، وأيضًا بتنفيذ مشروع قومى للصناعات التراثية والحرفية، بناء على أسس علمية مدروسة، فما رأيته حتى الآن تجارب، وليس توجه دولة. أول مسئولية تواجه هنو، هى أن يعيد المصريين الى المنشآت الثقافية التى هجروها، بعد أن أصبحت قصور الثقافة، مجرد مكاتب تحوى موظفين كل همهم التوقيع فى دفاتر الحضور والانصراف، يجب عليه أيضًا أن يلتفت لقضايا النشر، ويتبى حلولًا لها بعد أن هاجر الناشرون بمشاريعهم إلى دول مجاورة، ويتبنى مشروعات ذات صبغة تنويرية تضىء الأفق وتحقق رؤية الدولة فى الانفتاح على المستقبل، نحن فى حاجة إلى وزارة ثقافة ترعى الأفكار التنويرية وتأخذ بيد المبدعين وتمهد لهم الطريق، وتعبده، لذلك كانت سعادتى بالغة بالنجاحات المتتالية التى يحققها مشروع جوائز الدولة للمبدعين الصغار الذى يحظى بدعم ورعاية حرم الرئيس، أرقام هذا العام، كما قال لى د. هشام عزمى أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، تكشف عن تغيير جذرى ونوعى فى أعداد ونوعية المشتركين فى المسابقة بعد أن استشعروا الجدية، لم أصدق أن محافظة مثل أسيوط، كانت موصومة بأنها معقل للجماعات الجهادية، شاركت منها كل هذه الأعداد، وأن سيناء أفرزت فائزين تصدروا المشهد، ويبشرون بتغير مستقبلى على الأرض. بيت مصر فى باريس علَمَت مصر العالم فنون العمارة والبناء، قبل 6 آلاف سنة، لا نقول هذا كلامًا مرسلًا ولكنه واقع أمر شهد به الغرب، نراه ونلمسه باقٍ الى اليوم، سواء فى الفترة الفرعونية ومرورًا باليونانية الرومانية أو القبطية أو العصور الإسلامية المتعاقبة وانتهاء بالفترة العلوية التى أورثتنا القاهرةالباريسية التى نفتخر بها الى يومنا هذا. ورغم هذا الإرث الثرى إلا أننى أرى أننا فقدنا بوصلتنا المعمارية، ولم تعد هناك مدرسة مصرية واضحة للعمارة التى قد تعكس فى النهاية هوية بصرية تعكس عظمة تاريخ مصر وحاضرها وأيضًا مستقبلها، ويحزننى ويحز فى نفسى أن أرى انفاقًا بملايين الجنيهات فى بناء مبان حكومية مبهرة لكنها لا تعكس روح أو شخصية مصر، ولا تراعى البيئة، فنرى توسعًا غير مبرر فى استخدام الزجاج والألومنيوم، وتحتار أحيانًا ويختلط عليك الأمر: هل هذا المبنى فى مصرأم فى إحدى دول الخليج؟! المؤكد أن معين مصر لم ينضب، والأكيد أن مصر ولادة، وفيها خبرات تنال تقدير العالم فى شتى المجالات ومنها مجال العمارة، ولدينا العشرات بل الآلاف من خيرة مهندسى العمارة الذين يحملون جينات حم أيونو المهندس المعمارى الذى صمم ونفذ هرم خوفو هذا المبنى الذى يمثل أهم معجزة انسانية صنعها الإنسان وتتحدى الزمن عبر آلاف السنين . من هؤلاء سوف أتحدث عن نموذج واحد فقط هو المهندس وليد عرفه الذى حل المعضلة التى يروج البعض بصعوبتها وأحيانًا أخرى استحالتها ، بتصميم مبان ابنة البيئة المصرية، روحًا وفحوى، وفى نفس الوقت تراعى متطلبات الحداثة والعصر وتأخذ بأحدث التقنيات، سمعت باسمه للمرة الأولى عندما فاز تصميمه لمسجد قرية باصونه بسوهاج بجائزة عبد اللطيف الفوزان المخصصة لعمارة المساجد، وتم ترشيحه لجائزة أغاخان للعمارة الإسلامية، أسباب فوز التصميم كانت لمراعاته لتاريخ المسجد القديم الذى أنشئ قبل أكثر من قرن ولجمعه بين الحداثة والبيئة المحيطة وابتكر 118 ملقفًا لتهوية المسجد فلا يحتاج الى مكيفات رغم الطقس الحارة فى الصعيد، ومن يومها والمسجد يحظى باهتمام محلى بل ودولى من كل المهتمين بالعمارة الإسلامية المتوافقة مع البيئة. حفيد حيم ايونو الجين المصرى عند المهندس وليد عرفه لم يكن محض صدفة أو استثناءً، فقد سعت أكبر المكاتب الاستشارية الدولية إلى الاستعانة بخبراته، ومؤخرًا نجح فى تصميم ما يمكن أن نعتبره أول مشروع قومى مصرى يتم تنفيذه خارج الحدود، وللأسف لا يعرف الكثيرون عنه شيئا، ورغم اهتمامى بهذا الملف لم أسمع به ولولا الندوة الجميلة التى نظمها قطاع البحث الأكاديمى بمكتبة الإسكندرية الذى تديره الصديقة العزيزة د. مروة الوكيل ما كنت سمعت به، وهو «بيت مصر» فى باريس. للبيت قصة؛ فبعد الحرب العالمية الأولى أقدمت فرنسا على تنفيذ مشروع «المدينة الجامعية الدولية فى باريس»، حيث خصصت 85 فدانًا لإنشاء مدينة للطلبة بالتعاون مع العديد من دول العالم، على أن تقدم فرنسا الأرض، وتبنى الدولة بيتها، ومع الأيام تحول المكان إلى ما يمكن اعتباره متحفًا مفتوحا للعمارة، حيث تبارت قرابة 40 دولة على إنشاء بيوت لطلبتها ومبتعثيها في باريس، ومضت قرابة 50 عاما على محاولات مصر إنشاء بيتها، ولكن كان الفشل هو مصير كل المحاولات، حتى كانت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى لباريس فى 2017، وعرف بالمشكلة، وأعطى توجيهات ومن هنا كانت البداية، وتم تنظيم مسابقة معمارية برعاية وزارتى الخارجية والتعليم العالى، تقدم لها مكتب وليد عرفة مع آخرين من شتى الأنحاء، وفاز تصميمه .. لماذا؟ لسبب جوهرى هو أن البيت، ورغم أنه لا يحمل لافتة مكتوبا عليها: بيت مصر، الا أن التصميم ينطق من أول وهلة أن هذا البناء يخص مصر ويحمل ما يمكن أن نسميه «شفرة العمارة المصرية» فأنت لا تحتاج إلى لافتة تقول لك أنك تقف أمام الأهرامات! كانت هناك بالتأكيد تحديات أمام المهندس وليد عرفه لانجاز وتنفيذ تصميمه، أولها القرب من الطريق الدائرى، ثانيها المبانى المقابلة التي سنقارن بها تخص دولًا عريقة، ثالثها وأهمها كانت وجود شجرة زان أحمر عمرها أكثر من مائة عام فى الأرض، وهى محمية بالقانون الفرنسى، ولا يجوز قطعها، أو التعدى عليها بأى شكل وتحت أى مسمى، وأقرب إنشاءات منها يجب أن تكون بعد عشرة أمتار من كل الزوايا .. استنفر هذا التحدى طاقات حفيد المهندس الفرعونى حيم أيونو، حتى نجح فى تنفيذ مشروع بديع فريد، الشجرة جزء لا يتجزأ منه، وتزين واجهته نقوشًا باللغة الهيروغليفية (المترجمة إلى الفرنسية) كما راعى التصميم تجاوز أخطاء كل بيوت الطلبة السابقة للدول الأخرى. مصر ولادة وعامرة بالكفاءات التى نحتاج أن نؤمن بها ونفسح لها المجال.