مجلس جامعة بنها الأهلية يشكر الرئيس على المبادرات التي تستهدف بناء الإنسان    وزيرة التخطيط تلتقي ممثلي منتدى شباب العالم المصري بنيويورك    أبرز7 تصريحات لوزير المالية في لقائه وزير الاستثمار الأوزبكي    ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي لأعلى مستوى في 12 أسبوعاً    إصابة فلسطيني بالرصاص الحي واعتقال سيدة خلال اقتحام الاحتلال لبلدة بشرق قلقيلية    بايدن يقف للمرة الأخيرة كرئيس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة    وزير العمل: مصر تدعم كل عمل عربي مشترك يؤدي إلى التنمية وتوفير فرص العمل للشباب    عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حماية شرطة الاحتلال الإسرائيلي    صور| بعثة الزمالك تطير إلى السعودية استعدادًا لخوض السوبر الأفريقي    اتحاد الكرة يعلن عن تشكيل الجهاز الفني لمنتخب الشباب بقيادة روجيرو ميكالي    تحويلات مرورية تزامناً مع تنفيذ أعمال كوبرى سيارات بمحور تحيا مصر    أمسية ثقافية فنية وحفلا موسيقيا بالمتحف القومي للحضارة    لحياة أكثر صحة.. 5 نصائح فعالة لتحدي الشيخوخة    جامعة بنها تنظم قوافل طبية وبيطرية بقريتي مرصفا والحصة    وزير الخارجية: قضية المياه وجودية لمصر ولن نسمح لأي دولة بالتصرف وفق أهوائها    لهذا السبب.. قرار عاجل من كاف بتأجيل مجموعات دوري الأبطال والكونفدرالية    وزير الرياضة يستقبل السفير الإيطالي لهذا السبب    رابط إعلان نتيحة تقليل الاغتراب والتحويلات لطلاب الشهادات الفنية 3 و5 سنوات    «هل حدث تسريب من مصنع «كيما» في مياه النيل؟».. محافظ أسوان يكشف الحقيقة    بالأسماء.. 11 مصابًا في تصادم ميكروباصين ونصف نقل على زراعي البحيرة    البنك الأهلي المتحد مصر يوقع اتفاقية تعاون لتقديم خدمات التأمين البنكي    "بردا وسلاما على لبنان".. درة تدعم الشعب اللبناني    إحالة دعوى مرتضى منصور بوقف وسحب ترخيص فيلم الملحد للمفوضين    هيكل.. الجورنالجي الذي لم يتكرر!    روسيا تعرب عن قلقها إزاء التصعيد العسكري على لبنان    وزارة الأوقاف:افتتاح 14 مسجدًا الجمعة المقبلة    عوض تاج الدين: الرئيس السيسي يتابع لحظة بلحظة تقارير الحالات في أسوان    المواطنة والهوية الوطنية.. كيف تؤثر القيم الإنسانية في مواجهة الفكر المتطرف؟    الجيزة تزيل 13 كشك و"فاترينة" مقامة بالمخالفة بالطريق العام في المنيب    الشلماني يثير حفيظة القطبين قبل موقعة السوبر    الصحة: خطط عمل مستدامة للحفاظ على مكتسبات الدولة المصرية في القضاء على فيروس سي    عاجل| السيسي يصدر توجيها جديدا بشأن تنمية جنوب سيناء    طقس الفيوم.. انخفاض درجة الحرارة والعظمى تسجل 33°    صوت الإشارة.. قصة ملهمة وبطل حقيقي |فيديو    حبس عاطل ضبط وبحوزتi مواد مخدرة قبل ترويجهم على المتعاطين بالمنوفية    وزيرة البيئة تتوجه إلى نيويورك للمشاركة في أسبوع المناخ    ميرنا وليد وبناتها يخطفن الأنظار في حفل ختام مهرجان الغردقة (صور)    انتخابات أمريكا 2024.. هاريس تخطط لزيارة حدود أريزونا لمعالجة مشكلة الهجرة    خطوات إجراءات التعاقد على وحدة سكنية من «التنمية الحضرية» (مستند)    شوبير يعلق على قائمة الأهلي للسوبر الأفريقي: لا صحة لوجود حارسين فقط    ضغوطات وتحديات في العمل.. توقعات برج الحمل في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر 2024    بحث علمي وتعليم وتبادل طلابي.. تفاصيل لقاء رئيس جامعة القاهرة وفدَ جامعة جوان دونج الصينية    الإسماعيلي ينتظر رد «فيفا» اليوم لحسم ملف خليفة إيهاب جلال (خاص)    باستخدام كبرى العلامات التجارية.. التحقيق في واقعة ضبط مصنع أسمدة منتهية الصلاحية بالغربية    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية لمشروع مراكز القيادة الاستراتيجي التعبوي التخصصي    وزير الخارجية: لا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية واجتماعية دون أمن واستقرار    رئيس شركة المياه بالإسكندرية يتفقد يتابع أعمال الإحلال والتجديد استعدادا لموسم الشتاء    الصحة تعلن حصول 3 مستشفيات على شهادة اعتماد الجودة من GAHAR    ما حكم الخطأ في قراءة القرآن أثناء الصلاة؟.. «اعرف الرأي الشرعي»    بالصور.. حريق هائل يلتهم ديكور فيلم إلهام شاهين بمدينة الإنتاج الإعلامي    بالفيديو.. أسامة قابيل للطلاب: العلم عبادة فاخلصوا النية فيه    الإفتاء: الإسلام حرم نشر الشائعات وترويجها وتوعد فاعل ذلك بالعقاب الأليم    أبو الغيط يوقع مذكرة تفاهم الجامعة العربية ومنظمة التعاون الرقمى بنيويورك    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 24-9-2024 في محافظة قنا    مريم الجندي: «كنت عايزة أثبت نفسي بعيدًا عن شقيقي واشتغل معاه لما تيجي فرصة»    أضف إلى معلوماتك الدينية| دار الإفتاء توضح كيفية إحسان الصلاة على النبي    جيش الاحتلال الإسرائيلي: صفارات الإنذار تدوى جنوب وشرق حيفا    نادر السيد: النسب متساوية بين الأهلي والزمالك في السوبر الإفريقي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد الزناتى ..روبرتو كالاسو وصنعة الناشر
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 08 - 07 - 2024

فكّرت للوهلة الأولى أن أسمِّى هذه المقالة فن اختيار الكتب، وليس صنعة.
ما يشدنى على الدوام إلى أعمال كالاسو هو هذا النبش الفضولى المتواصل فى التراث الغربى (والشرقى كذلك)، وإزالة الغبار عن الروائع والتناص معها وإنتاج نصوص أدبية جديدة.
كتبتُ أكثر من مرة عن روبرتو كالاسو، المؤسسة الأدبية الواقفة على قدمين بحسب تعبير باريس ريفيو، والناشر المثقف، والكاتب البارع، والقاريء واسع الاطلاع، وفى أثناء إعادة النظر فى أعماله استرعى انتباهى كتاب صغير الحجم، نشره كالاسو بوصفه سيرة مهنية وأدبية وذاتية، لكن الأهم فى ظنى هو أسماء الأعمال الأدبية التى أحبّها، ورؤية الناشرين الأوائل.
تكشف تأملات كالاسو حول النشر عن سعة الاطلاع العميقة والحدة النقدية التى ظهرت فى كتبه السابقة، والتى تتضمن أعمالًا رائعة عصية على التصنيف حول الأساطير اليونانية، والأساطير الهندوسية، وكتابه عن كافكا K (الذى كتبتُ عنه مطولًا فى هذا الباب قبل سنوات)، ورسائله إلى القُراء على كلمات الأغلفة التى كان يحررها، وتكلمت عنها فى كتابى «خدش عظم الحياة». لكن من الواضح أن هذا الكتاب، على خلاف الأعمال السابقة، يجمع قطعًا منفصلة قصيرة مرتبطة بمناسبات منفصلة، لكن وجدتُ أن الرجل أذكى من أن يكتب نصًا أو مقالًا دون أن يقول شيئًا مهمًا ضاربًا بجذوره فى أرض التجربة.
يدافع المفكر والناشر الإيطالى روبرتو كالاسو دفاعًا مقنعًا وجهيًا عن مبدأ النشر بوصفها صنعة (أو فنًا) فى كتابه، كان كالاسو من بين مؤسسى دار أديلفى فى عام 1963 ولم يزل فى أوائل العشرينات من عمره، وفى عام 1971 أصبح مدير تحرير الدار.
يعلِّمنا عبد الرحمن بدوى أن نبدأ بفهم الاصطلاح. تشير كلمة Art إلى طيف واسع من المعاني: فهى فن، وهى علم أيضًا وفق معجم المصطلحات العربية فى اللغة والأدب، مجدى وهبة وكامل المهندس، لبنان 1984، صفحة483)، كما تشير كذلك إلى الصنعة ومنها اشتُقت كلمة Artisan (الحرفى أو الصنايعي). وهى بحسب قاموس ويبستر: الاستخدام الواعى للمهارة والخيال الإبداعي، لاسيما فى خلق مُنتج جمالي.
وأنا أفضّل أن أترجمها هنا إلى صنعة، لما تشتمل عليه الكلمة من وَجهى المعنى (الجانب الفني/ الفكرى من ناحية، والعملى /التطبيقى من ناحية ثانية، ويقول النص القرآنى فى لفتة بيانية مذهلة (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) – سورة الأنبياء 80)، فى إشارة إلى شِقّ العلم/التعليم الإلهى والشِقّ اليدوى المهارى الذى أتقنه نبى الله داود عليه السلام. ونحن نقول فى اللغة العامية «شرب الصنعة»، أى أتقن أصول الحرفة وفق القواعد الفنية المرعية، وأداها بفن ومَعْلَمَة، وهى كلها دلالات تشير إلى الفن والممارسة.
ما علاقة هذا بكلام كالاسو؟
العلاقة أن صنعة الناشر – بحسب كلماته فى الصفحات الأولى- تكمن فى رعاية وتطوير رؤية أدبية متميزة، وأن هذه الرعاية مقرونة بالجانب الفكرى الذهنى من ناحية والجانب العملي/التطبيقى من ناحية أخرى. ومعناها أيضًا أن الناشر – وفق رؤية كالاسو – ينبغى أن يتحلّى بخصائص لا تقل عن خصائص الكاتب الذى ينشر له، لا أقصد توجهات فنية/فكرية/إيديولوجية، وإنما ثقافة الكاتب ووعيه. أعجبنى أن الفصل الأول يحمل عنوانًا لافتًا «النشر بوصفه جنسًا أدبيًا genre» قائمًا برأسه».
يبدأ كالاسو بملاحظة أن الناشرين مختلفون عن مُورِّدى الخضروات المجمدة وتجار أزرار القمصان، ومعظم السلع الأخرى المتداولة، فيقول نصًا: «إنه من غير المرجح أن تضع دار النشر الجيّدة نُصب عينيها الربح السريع فى أول أمرها، فلم يسبق أن جعلت نشر الكتب الأدبية الرصينة أو الجادة إنسانًا فاحش الثراء، فقد يبيع الكتاب الجيد كثيرًا من النسخ وقد لا يبيع، لكن قيمة الكتاب شيء ونجاح مبيعاته شيء آخر، ولا يمكن اختزال قيمة كتاب فى رقم المبيعات».
ومع أن كالاسو يدرك الحاجة إلى ضرورة بيع الكتب وتسويقها، إلا أنه يتبنّى موقفًا معقولًا مؤداه أنه لكى يصبح الناشر أكثر من مجرد تاجر أزرار وفق تعبيره، عليه أن يبدأ باختيار الكتب الجيدة أولًا ثم يحاول بيعها، بدلًا من اختيار الكتب الذى يَفترض هو أنها ستحقق مبيعات جيدة، ثم يعلن لاحقًا أنها أعمال جيدة، وهى أزمة يبدو أن لها حضورًا قويًا فى أوروبا، وليس عندنا فقط.
طالما انتُقِد كالاسو على هذه النظرة غير الواقعية، وكأنهم يسألونه:»طيب وهناكل ونصرف منين؟»
كان كالاسو يرد على هؤلاء المنتقدين بعدة طرق مقنعة، متوسلًا فى ذلك بتجربة عقود طويلة فى أروقة النشر، ضاربًا المثل بعديد من الأمثلة على الكتب ذات الفرص التسويقية والربحية المحدودة والتى نُشرت بفضل جودتها الأدبية واستمرت فى تحقيق المبيعات بوتيرة بطيئة، ولكن ثابتة، وهو لا ينفى أن بعضًا (بل كثيرًا) من الكتب الممتازة لا تبيع إلا نسخًا قليلة، ومع ذلك ثمة أسباب جمالية وثقافية تعزز من نشر هذه الكتب، وهنا دور الناشر.
يقول كالاسو:
«لكى يُعترف بالناشر بوصفه رجلًا يجيد اختيار الكتب القيّمة الجديرة بالنشر، فإنه محتاج إلى اختيار الكتب ذات القيمة والجودة من البداية، فالكتاب الجيد الذى يفشل فى تحقيق مبيعات جيدة، لا يُضعف العلامة التجارية للناشر [اسم الدار] البتة، فى حين أن مواصلة نشر الكتب متواضعة القيمة أو التافهة بلا انقطاع، حتى وإن حققت مبيعات عالية، قد يؤدى إلى زعزعة الثقة فى اسم الدار كضمان للجودة».
المثير للإعجاب أنه لم يضع تعريفًا لكلمة «الكتاب القيّم الجدير بالنشر»، وكأن الأمر بدهي، ولا يحتاج منه إلى شرح مستفيض. طالما حاولتُ تفسير إقبال بعض الناشرين على أى كاتب لاتينو أميركى درجة تاسعة لمجرد أنه مواطن عادى جداً من سكان أميركا الجنوبية، أو كاتبة/ كاتب فرنسى حاصل على جائزة «يا أهل المحبة إدونى حبة» الفرنسية المرموقة لمجرد تناوله ثيمات ضعيفة فنيًا كالجندرية والشعبوية، والتعقيدات التى صادفها وهو يحاول الحصول على تأشيرة إقامة لأهله الوافدين، أو روائى أميركى يكتب عن معاناته فى الحصول على رهن تمويل عقاري، وتتجاهل نقل أعمال تأسيسية لعمالقة تساعدنا فى فهم روح وحياة هذه الثقافات؛ توماس بينشون (رواية واحدة للعربية) وديفيد فوستر والاس (رواية واحدة للعربية)، دون ديليلو (عملان فيما أظن)، وأدولفو بيوى كاساريس (عملان فقط للعربية) وخابير مارياس (أربع روايات فقط فيما أذكر) وسيرخيو بيتول (ولا عمل باستثناء ما كتبتُه عنه فى هذا الباب من أشهر)، والأمثلة أجل من الحصر. أظنَّ ظنًا أن الأدب الروسى هو الأدب الوحيد الذى يخلو من نص غث.
يذهب كالاسو إلى أن السواد الأعظم من الناشرين يصدرون أحكامًا رديئة على استحقاق أو جدارة بعض الأعمال الأدبية للنشر من غيرها، فيشير مثلًا إلى غلطة الناشر ألفريد كنوبف فى وَصفِ أعمال أديبة نوبل أليس مونرو فى بدايتها، لمّا قال إن قصصها «سريعة النسيان ولا تثبت فى الذاكرة ونصوصها متوسطة القيمة»، وقبلها رُفضت أعمال إرنست همنجواي، وديفيد ميتشل، وكورت فونيجت، وجورج أورويل، وسيلفيا بلاث وغيرهم من عشرات الكتاب الآخرين، الذين احتُفى بأعمالهم احتفاءً عظيمًا بعد سنوات طويلة.
وَفق كلام كالاسو فإن الناشرين المتمتعين بالذوق الأدبى الحقيقى نادرون ندرة الكُتاب أصحاب المواهب الحقيقة، وهذا ما يجعل (الذوق الأدبى الرفيع وفن اختيار الكتاب) فى حد ذاته نوعًا من الموهبة، أو مهارة من مهارات الناشر، بداية من الاعتراف بالعمل الجيد وصولًا إلى تقديمه للجمهور والترويج له، ومن ثمّ يصير النشر فى أفضل صوره فنًا/صنعة.
يتساءل كالاسو عن المعايير التى يمكن أن نحكم من خلالها على عَظَمة ناشر ما عبر التاريخ؟ ويجيب أن المشكلة الرئيسة هى الافتقار إلى وجود ببليوجرافيا (علم وصف الكتب والتعريف بها ضمن قواعد معينة)، مشيرًا إلى أنه فى مقدورنا قراءة العديد من الدراسات المستفيضة عن أعمال بعض كبار الناشرين، ولكن نادرًا ما نجد معيارًا موضوعيًا يحكم على عظمتهم، كما يحدث عادةً عند التعامل مع الكتاب أو الرسامين. إذن ما الذى يجعل الناشر عظيمًا؟ كالاسو شخصيًا لا يملك تصنيفًا إلا العودة إلى التاريخ، لكن الأمثلة التى قدّمها دالة بما يكفي.
يضرب كالاسو أمثالًا عن جرأة الناشرين الأوائل، ويقصد فى القرون الوسطى لنشرِ أعمال عجيبة غريبة مخالفة لذوق عصرها. ففى سنة 1499 نشر الناشر ألدوس مانوتيوس كتابًا يحمل عنوانًا غامضًا Hypnerotomachia Poliphili، «صراع الحب فى الحُلم»، أو حُلم بوليفيلو حسب الترجمة الألمانية، وهى رواية مكتوبة بأسلوب شديد الغرابة ، شيء أقرب إلى يقظة فينيجين لجويس حسب كلامه، مزيج من الإيطالية واللاتينية واليونانية (بينما ظهرت العربية والعبرية لاحقًا). العجيب أن العمل لاقى قبولًا حسنًا بين مُحبى الكتب، وعدّوه أجمل كتاب طُبع وقتذاك على الإطلاق.
هل استلهم أومبرتو إيكو شيئًا من هذا العمل؟ هل نرى ترجمة عربية لهذه الرواية اليوم؟
ثم ينتقل إلى مطلع القرن العشرين ويضرب مثلًا بالناشر الألمانى الكبير كورت فولف Kurt Wolff، فيصفه بالشاب الألمانى الأنيق المتحدّر من أسرة موسرة، والذى أراد نشر أعمال لكُتاب جُدد، فأدرك بذائقته الفريدة أن لديهم شيئًا يكتبوه، لا شيئًا يقولوه بحسب بيتر هاندكه، الذى طالما سخر من ثرثرة مجايليه، وقال إن لديهم الكثير جدًا ليقولوه، ولكن ليس لديهم ما يكتبوه.
أنشأ فولف سلسلة من الكتب صغيرة الحجم، فى طبعات وأغلفة غير مألوفة آنذاك، وسمّاها Der Jüngste Tag (يوم القيامة)، وهو عنوان طريف رآه الرجل مناسبًا لسلسلة من الكتب التى ظهرت فى معمعة الحرب العالمية الأولى، كتب سوداء اللون، بسيطة التجليد، مزيّنة بملصقات مثل الكراسات المدرسية، فنشر نصوص كافكا الأولى، ومن بينها رواية التحول عام 1915. كان كافكا وقتذاك كاتبًا شابًا مغمورًا، ومنطويًا على نفسه. يقول كالاسو: «بعد قراءة رسائل كورت فولف ردًا على طلب كافكا بفرصة النشر، سندرك على الفور لباقة وذكاء واهتمام الناشر، وسندرك أن الناشر أدركَ ببساطة من هو فرانتس كافكا، فضلًا عن مجازفته بنشر نصوص روبرت فالزر وأشعار جيورج تراكل وجوتفريد بِن وروايات فرانتس فيرفيل وغيرهم».
تدلنا الفقرة السابقة أن المسألة ليست ذائقة فردية وحسب، وليست مبدأ «لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع»، بل هى رؤية وثقافة وصنعة وفن كما يقول كالاسو. وأظنها كانت «وقعة سودة» فى تاريخ الأدب الغربي، لو أن كورت فولف انقاد وراء ذائقة مجايليه، وتجاهل مخطوطات كافكا وروبرت فالزر وجيورج تراكل وكارل كراوس، ونَشَر أعمال الأكثرية المنتشرة فى محيط مسقط رأس كافكا بما تنضح به نصوصهم من مستوى فنى ضحل.
وأخيرًا لكورت فولف كتاب نادر صدر بالإنجليزية قبل أربعة عقود، وقع فى يدى فى رحلة السنة الماضية يشتمل على مراسلاته مع أساطين كُتاب أوروبا فى مطلع القرن العشرين مثل كافكا، ريلكه، لو سالومي، جيمس جويس، بوريس باسترناك وغيرهم. الكتاب متعة حقيقية، وجنس أدبى قائم بذاته.
فى فصل تالٍ يتكلم كالاسو عن مصطلح نحته نحتًا اسمه The Singular Book، وهو اصطلاح يشير إلى الدرّة اليتيمة بحسب تعبير ابن المقفع فى حياة صاحبه، أو الكتاب الفَرد / المفرد بحسب تعبير الإمام الشافعي، والمقصود به عمل واحد مفرد كتبه مبدع (ليس بالضرورة روائى أو قصاص)، ولم يؤلّف سواه. يقول كالاسو إن الكتاب المفرد يشير إلى وقوع حادث ما فى حياة مؤلِّفه دفعه دفعًا إلى تأليف الكتاب، وإن كاتبه ألّفه فى حالة أشبه بالهذيان أو الحُلم.
ويضرب أمثالًا منها الناشر الإيطالى الكبير روبرتو بازلن الذى قضى حياته كلها وسط الكتب كمحررّ مرموق وقاريء من الطراز الأول (الرجل الذى قرأ كل شيء بتعبير إنريكه بيلا– ماتاس) ، وكان يعانى من نفاد صبر تجاه الكتابة، وكان يرى أن تأليف كتابٍ إنما هو نتيجة ثانوية للقراءة، وأن الكاتب محتاج إلى عيش التجربة الجمالية الروحانية للكتابة، لأنها مربط الفرس.
وبدلاً من ذلك، كان بازلن مفتونًا بنوع واحد فقط من الكتب، الكتب التى تمثل تجربة معرفية، وبالتالى يمكن تحويلها إلى تجربة مماثلة عند أولئك الذين يقرؤون الكتاب، وفى مقدور القاريء الرجوع إلى مقالى المطول عن بازلن بعنوان هوامش بلا متن المنشور هنا قبل سنتين، فألّف بازلن رواية يتيمة اسمها The Sea Captain ، وهى بحسب تعبير كالاسو خلطة إيطالية بين عوالم كافكا وصمويل بيكيت وهذيانات السورياليين، وأتمنى أن يلتفتَ إليه المختصّون فى اللغة الإيطالية.
وكذلك رواية ياكوب فون جونتين لروبرت فالزر،، وعمل آخر عبقرى لمؤلّف غريب الأطوار عاش قبل مئة سنة أو يزيد، كتب رواية أسطورية يتيمة، لم يُخلق مثلها فى البلاد، أظنها ألهمتْ أجيالًا كثيرة، ثم طواه الردى وخمد ذكر درّته اليتيمة، ولكن على الله قصد السبيل. كان فى نيّة كالاسو تأسيس سلسلة تضمُّ هذه الأعمال (أو ترجمتها لمزيد من الدقة)، بغية الوصول إلى مدونة أدبية ثرية. وكان هذا انطلاقًا من إيمان بازلن، ومن بعده كالاسو بقيمة ما يقدّمه الكِتاب الفَرد أو الدرة اليتيمة من تجربة معرفية فريدة، قادرة على إحداث تحوّل فى حياة قارئها، هو دافع عاطفى حالِم، يتخذ من المعرفة التى يحصل عليها المرء من خلال الكتاب وسيلةً، مع أن هذه المعرفة ليست كاملة أبدًا، بل هى مجرد جزء من الخبرة، ولمحة عن المجهول، ولقاء قصير مع الآلهة وفق تعبيره.
فى فصل تالٍ أشد امتاعًا يكلمنا كالاسو عن ذكرياته مع كبار الناشرين الذين أحبّهم: روجر ستراوس، وبيتر زوركامب، وفلاديمير ديميترييفيتش (لا أعرف الأخير). وسأتعرّض هنا سريعًا للناشر الألمانى العريق بيتر زوركامب، بفضل الثناء الذى خصَّه به هيرمان هسّه أولًا وصداقة الاثنين بالطبع، وقطعًا لمحبتى العميقة لإنتاج الدار المرموقة، التى أراها «الماكينة الألمانية» الهادرة الصموتة، التى لم تخيّب ظنى فى إنتاجها إلا فى بعض الأعمال نتيجة الضغوط السياسية المعروفة.
بدأ بيتر زوركامب النشر فى ظروف عصيبة بعد الحرب، وبدأ فى سن التاسعة والخمسين. نشر أعمالًا لهيرمان هسّه وبرتولد بريشت، يلاحظ كالاسو أن الرجل لم يعر انتباهًا للمواقف الإيديولوجية (أقصى اليمين = هسّه)، (وأقصى اليسار = بريشت)، وكان زوركامب صديق الاثنين ومعجبًا بأعمال الاثنين.
وضع الرجل الخطوط العريضة لسياسة الدار من خلال برنامج وصفه بنشر أعمال الصفوة، فنشر أعمال تيودور أدورنو، وفالتر بنيامين، وإرنست بلوخ. وعندما ظهرت الطبعة الشهيرة لكتابات فالتر بنيامين عام 1955 بتحرير أدورنو فى مجلدين ضخمين، تساءل زوركامب، إذا ما كان الكتاب سيجد عشرة قُراء فى ألمانيا، باعت المكتبات فى السنة الأولى 240 نسخة فقط، المهم أن زوركامب اختار خليفته وهو سيجفريد أونسيلد، الذى جمع بين ميزة الناشر المحترف والكاتب الواعي.
الجدير بالذكر أن ذكرياته ومراسلاته مع كبار الكتاب الناطقين بالألمانية (لاسيما مع هاندكه) تفوق فى جمالياتها كثيرًا من الروايات التى نُشرت وقتذاك، اختاره زوركامب – وفق كالاسو- لأنه كان يجيد فن اختيار الكتب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.