فى مقال سابق من هذه السلسلة من مقالاتي للتدبر فى لغة القرآن الكريم ، أشرت إلى الفارق «المهم للغاية» بين الإسلام والإيمان، موضحا أن الاسلام لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى. فالفعل أسلم فى اللغة العربية يتعدى بحرف الجر اللام وما بعد اللام لغة لابد أن يكون موجودا وواقعا. أما الفعل آمن فيتعدى بحرف الجر الباء، وما بعد الباء غيب. فأنا أقول أسلمت لله رب العالمين، فيما أنا آمنت بمحمد خاتم الأنبياء والرسل أجمعين. ذلك أن الموجود الواقع حتى تقوم الساعة هو الله وصفته سبحانه الحق أى الموجود وما تدعون من دونه الباطل وهى الصفة التى تعنى الوهم. فالله موجود فينا عندما نتنفس وعندما ننظر وعندما نشعر وموجود حولنا فى الهواء الذى نتنفسه. كما ورد فى الآية 30 من سورة لقمان: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى الْكَبِيرُ». وعليه فإن الإسلام فى لغة القرآن ليس اسمًا لدين خاص، وإنما هو اسم للدّين المشترك الذى هتف به كل الأنبياء، فنوح يقول لقومه: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) «يونس: 72»، والإسلام هو الدين الذى أمر الله به أبا الأنبياء إبراهيم: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) «البقرة: 131» ويوصى كل من إبراهيم، ويعقوب أبناءه قائلاً: (فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) «البقرة: 132» وأبناء يعقوب يجيبون أباهم: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) «البقرة: 133» وموسى يقول لقومه: (يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) «يونس: 84» والحواريون يقولون لعيسى: (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) «آل عمران: 52» وحين سمع فريق من أهل الكتاب القرآن (قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) «القصص: 53». فالإسلام شعار عام كان يدور على ألسنة الأنبياء، وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية. واستعمال مادة الإسلام بمشتقاتها يأتى فى القرآن غالبًا بمعنى الإسلام العام، لا الخاص، كقوله تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِى قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «البقرة:131-132-133»، فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «آل عمران:52»، وقوله: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «آل عمران:83»، وقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ «المائدة:111»، فترجمة مثل هذه المواضع بالمعنى الخاص الذى هو علم على رسالة النبى الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم خطأ ظاهر. وما دام الله هو الحق أى الموجود، فإن من لا يقر بوجوده هو مجرم، وليس مجرد كافر. فالصفة مجرم فى القرآن الكريم هى عكس المسلم، فيما صفة الكافر هى عكس صفة المؤمن. فالإيمان يكون بالغيب. فالفعل كفر يعنى ستر، ولهذا يوصف الليل بالكافر أى الذى ستر ضوء النهار، ويقال للفلاح إنه ساتر لأنه يدفن البذرة فى الأرض حتى تنبت. أما المجرم فهو الذى قطع الصلة بينه وبين الله سبحانه وتعالى بإنكاره وجود الله من الأساس. وبالتالى فهو لا يمكن وصفه أصلا بالمسلم، ولذلك أنبأنا المولى فى قرآنه الكريم بتحريم الجنة على المجرمين بل ونفى أن يكون لهم حساب. وفى سورة القلم نقرأ : « أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)». أما تأكيد أن المجرمين لا يسألون عن ذنوبهم فورد فى الآية 78 من سورة القصص: «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ». وفى الآية 102 من سورة طه: «يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا»، فالحشر للمجرمين فى نفس يوم النفخ فى الصور وهم يحشرون وقد ازرقت عيونهم من العطش، وهو معنى زرقا فى الآية الكريمة. ولعلنا بعد هذا العرض نستطيع تلخيص مصطلح المجرم فى القرآن الكريم بأنه يصف فئة من المكلفين الذين بلغ بهم الأمر فى الإجرام والضلال نقطة اللا عودة ، وأنهم بشّروا بالنار وهم لا يزالون على قيد الحياة ، وبعبارة أوضح فإن المجرم هو شر الناس قاطبة ، ولم يرد مفردا معرفا إلا فى سورة المدثر وهو فى موضع مواجهة النار فيتمنى أن يخلص نفسه منها بأقرب الناس اليه وهو ولده ، ثم الأبعد فالأبعد. وعند تمعن النظر فى الآيات التى ذكر فيها لفظ المجرمون، يظهر عدم ذكر الرحمة أو العفو أو المغفرة أو التوبة، فهذا الأمر يؤكد ما نعتقده بمقصود هذه الكلمة فى القرآن الكريم بأنها صفة أهل النار المحالة ولو كانوا يأكلون ويشربون. وفى الآية 55من سورة الروم : «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ «. وفى سورة ابراهيم : « وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِى اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)». أى أن هؤلاء من قاطعى الصلة بينهم وبين الله سبحانه و تعالى ستراهم يوم القايمة «مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ» أى: يسلسل كل أهل عمل من المجرمين بسلاسل من نار فيقادون إلى العذاب فى أذل صورة وأشنعها وأبشعها. وحدهم المجرمون لأنهم لن يكونوا مؤهلين لحضور جلسة للحساب بحضور الحكم العدل جل شأنه لأنهم ببساطة أجرموا وقطعوا الصلة بينهم وبينه جل وعلا. وإلى الأسبوع المقبل بمشيئة الله، إن كان فى العمر بقية، ومزيد من التدبر فى كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.