قالت دار الإفتاء أنه قد يحتجُّ بعض الناس على عدم مشروعية الذِّكر الجماعي بما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مما قد يُفيد النهي عن رفع الصوت بالذِّكر، ويُرَدُّ على ذلك من عدة وجوه: الأول: أنه قد ذَكر غير واحد من الحفاظ والشراح أن هذا الأثر مما لا يصح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأنه قد روي من فعله رضي الله عنه ما يخالف ذلك القول. اقرأ ايضا : ماهي أنواع الحج؟ وما الطريقة الصحيحة لأداء كل نوع؟ الإفتاء تُجيب وتابعت دار الإفتاء : قال الإمام ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (1/ 177): [وأما ما نُقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى قومًا يهللون برفع الصوت في المسجد، فقال: ما أراكم إلا مبتدعين، حتى أخرجهم من المسجد؛ فلم يصح عنه بل لم يَرِد] اه. والثاني: على فرض صحته، فإنه محمولٌ على المبالغة في الجهر الذي يحصل به التشويش على أناس آخرين، ومعلومٌ أن المشروعية مقيدة بمنع التشويش على الغير. قال الإمام الشعراني في "الأنوار القدسية" (ص: 29، ط. دار الكتب العلمية): [أجمع العلماء سلفًا وخلفًا على استحباب ذكر الله تعالى جماعةً في المساجد وغيرها من غير نكير، إلَّا إن شوش جهرهم بالذكر على نائم أو مصلٍّ أو قارئ، أو نحو ذلك مما هو مقررٌ في كتب الفقه] اه. والثالث: وعلى فرض صحته أيضًا فهو معارَض بما يدل على ثبوت الجهر منه رضي الله تعالى عنه مما رواه غير واحد من الحفاظ. قال الإمام السيوطي في "الدر المنظم في الاسم الأعظم" (1/ 472، ط. دار الفكر، ضمن "الحاوي في الفتاوي"): [فإن قلتَ: فقد نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى قومًا يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين، حتى أخرجهم من المسجد. قلتُ: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومَن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو معارَضٌ بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة، وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "الزهد": .. عن أبي وائل قال: هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر، ما جالستُ عبد الله مجلسًا قط إلا ذكر الله فيه. وأخرج أحمد في "الزهد" عن ثابت البناني قال: إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله، وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإنهم ليقومون مِن ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء] اه، وبمثله قال العلامة المناوي في "فيض القدير" (1/ 457، ط. المكتبة التجارية الكبرى). موضحه أنه إن قيل: إن هناك من العلماء مَن عدَّ "الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة ليس مِن السُّنَّة" كما قال ابن الزبير. قلنا: هذا القول متعلق بمسألة غير مسألتنا، فمعناه: "لا يقال مع الإِمام كما يقول على المنبر"، كما قال شيخ المالكية في وقته الإمام ابن شعبان؛ كما في "شرح التلقين" للإمام المازري المالكي (1/ 1003، ط. دار الغرب الإسلامي). وإن قيل: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن الصحابة الكرام التزام الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقب صلاة الجمعة، ولذا فهذا يُعدُّ من البدع، وهذا مثل واقعة إحداث المؤذنين الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند طلوع الفجر، وقد قال العلامة ابن الحاج المالكي في "المدخل" (2/ 249-250، ط. دار التراث) بخصوص ذلك: [ينبغي أن ينهاهم عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند طلوع الفجر، وإن كانت الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أكبر العبادات وأجلِّها؛ فينبغي أن يسلك بها مسلكها، فلا توضع إلَّا في مواضعها التي جعلت لها. ألَا ترى أن قراءة القرآن من أعظم العبادات؟! ومع ذلك لا يجوز للمكلف أن يقرأه في الركوع ولا في السجود ولا في الجلوس، أعني: الجلوس في الصلاة؛ لأن ذلك ليس بمحلٍّ للتلاوة؛ فالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدثوها في أربعة مواضع لم تكن تفعل فيها في عهد من مضى، والخير كله في الاتباع لهم رضي الله عنهم مع أنها قريبة العهد بالحدوث جدًّا] اه. قلنا: لعل الذي جعل ابن الحاج ومن ينحو نحوه يحكم على هذا الأمر ومثله من الأمور المتروكة التي لم تكن في الصدر الأول بالابتداع -هو أنه عَدَّ كلَّ ما لم ينقل فيه شيء مخالفًا لمقصود الشارع، ومن ثَمَّ وصفه ب"البدعة"، ومن المعلوم أن القائلين بهذا المنهج والمتبعين له في كلِّ المسائل قد أصابهم نوع اضطراب في أقوالهم في هذا النوع مِن الترك؛ إذ تارة يُدخلون ذلك في الأمور العادية، وتارة يقصرونه على ما فيه تعبد. والذي يترجح أن مجرد عدم وجود نقله على عين المسألة يدل على الإباحة والمشروعية ما لم يصادم نصًّا أو قاعدة شرعية؛ ثُمَّ إن ترك الصدر الأول في الإسلام تدخله الاحتمالات؛ إذ من الممكن أن تركهم لفعلٍ ما كان لما هو أفضل منه، أو جاء بغير قصد، أو أن يكون المتروك غير جائز عندهم.. إلى غير ذلك من الاحتمالات، والقاعدة: أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال. مشروعية تخصيص زمان معين أو مكان معين بالأعمال الصالحة ولا ريب أن العلماء قد نصوا على مشروعية تخصيص زمان معين أو مكان معين بالأعمال الصالحة، وليس ذلك من البدعة في شيء؛ لكونها من مشمولات الأمر العام. ولفتت إلى قول الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (3/ 69، ط. دار المعرفة) في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشيًا وراكبًا: [وفي هذا الحديث -على اختلاف طرقه- دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة، والمداومة على ذلك] اه. وقال العلامة محمد بخيت المطيعي -مفتي الديار المصرية الأسبق- في "أحسن الكلام فيما يتعلق بالسُّنَّة والبدعة من الأحكام" (ص: 27-28، ط. مطبعة كردستان العلمية): [وروي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» رواه مسلم. فضلِ الاجتماع على الخير كلِّه والجلوس له وروى أيضًا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لقوم جلسوا يذكورن الله تعالى ويحمدونه على أن هداهم للإسلام: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ». وفي الحديثين أوضح دلالة على فضلِ الاجتماع على الخير كلِّه والجلوس له، وأن المجتمعين على خيرٍ الجالسين له، ذكرًا كان أو قراءة قرآن أو سماعه أو أدعية أو غير ذلك، مما عُرف أنه خيرٌ شرعًا، بأن أُمِرَ به على الخصوص، أو أُدخل تحت الأمر العام، في مسجدٍ أو غيره من الأمكنة التي لا يُخلُّ الاجتماع فيها بالآداب، في يوم الجمعة أو في غيره مع الجهر والسر -يباهي الله بهم الملائكة، وتنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله بالثناء عليهم فيمَن عنده من الملائكة، فأي فضائل أجلُّ من هذه الفضائل؟. لا حجة عقلية ولا شرعية لمن ينهى عن تخصيص المسلمين لوقت من الأوقات لذكر ومن هذا القبيل -بلا شبهة- الاجتماع للصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها جماع الخير، ومفتاح البركات بإجماع المسلمين، وقد أمرنا الله في كتابه بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال جلَّ شأنه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وهذه الآية عامة في الأشخاص والأحوال والأمكنة والأوقات، وقد وردت أحاديث كثيرة أيضًا في فضل الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم] اه. ولا حجة عقلية ولا شرعية لمن ينهى عن تخصيص المسلمين لوقت من الأوقات لذكر الله تعالى وعبادته، وهم مع ذلك لا ينهون ولا يعترضون عن تخصيص بعض الأوقات لغير ذلك من الأفعال الدينية أو غير ذلك، بل يُخشَى على هؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويتكلمون فيما لا يعلمون، أن يدخلوا بنهيهم هذا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ [البقرة: 114]. قال العلامة الطحطاوي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص: 318، ط. دار الكتب العلمية): [قال في "الفتاوى": لا يمنع من الجهر بالذكر في المساجد احترازًا عن الدخول تحت قوله تعالى: ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ 0للَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا 0سۡمُهُ﴾ [البقرة: 114] كذا في "البزازية"] اه. منهج دار الإفتاء المصرية في النظر في الأمور التي يدعي البعض أنها بدعة بذلك يتأكد منهج النظر الذي تنطلق منه دار الإفتاء المصرية في مثل هذه الأمور، حيث تقرر أن إطلاق مصطلح "البدعة" إنما هو مجرد وصف لغوي لكلِّ ما أُحْدِث، وأن هذه النازلة وذلك المُحْدَث يحتاج إلى حكم شرعي يحكم به عليه؛ ولذلك يكون النظر الإفتائي: في أيٍّ من الأحكام التكليفية الخمسة يندرج؟ ومن ثَمَّ يخضع كلَّ جديد -سواء أكان من الأمور العادية أم مما فيه تعبد- لقواعد الشرع الشريف وثوابته، فما وافقها يُقبل، وما خالفها يُرَد. وهو امتداد لعامة الفقهاء أوسعُ وأرحبُ؛ وأليق بالمناهج والقواعد الفقهية وأقرب إلى النظر الأصولي، وفيه يظهر اتساق الأدلة وعدم الاضطراب في تطبيقها، بينما نلاحظ أن منحى المخالف غير منضبط، نظرًا لاحتياجه إلى أن يؤول كثيرًا من النصوص لتخضع تحت مظلة أدلته، وتنطوي تحت مقولاته التي يتبناها! الخلاصة بناء على ذلك: فإنَّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد صلاة الجمعةِ جهرًا واجتماعَ الناس على ذلك هو أمرٌ مشروعٌ على سبيل الاستحباب يَجمَعُ الناسَ على قربة من أجلِّ القربات، فإذا ما اجتمع في ذلك مقاصد شرعية؛ من تنبيه الغافلين ورفع الحرج عنهم، وتعليم الشباب وتوجييهم