19/12/2011 01:28:15 م حازم بدر قبل فترة قصيرة سرت شائعة مفادها أن النجم السينمائي حسن فهمي يعاني من اضطرابات نفسية لمجرد أنه شوهد يتردد علي عيادة نفسية.. وإذا كان النجم الكبير قد امتلك من الشجاعة ما جعله يعترف بأنه يفعل ذلك مثلما يذهب البعض لتنظيف أسنانه عند طبيب الأسنان .. فإن الكثيرين لا يملكون هذه الشجاعة وتحول الذهاب للطبيب النفسي إلي وصمة عار يحرص الكثيرون علي إخفائها ، فلماذا التعامل بهذا الحرج مع الطبيب النفسي ؟ ولماذا نذهب إليه في الظلام حتي لا يرانا أحد؟ وكيف يمكن تغيير تلك النظرة إليه ؟ . عشرات من القصص تؤكد أن البعض يعتبر الذهاب إلي الطبيب النفسي وصمة عار ، فمنذ فترة نشرت الصحف أن إحدي الأمهات اقتحمت مكتب مدير المدرسة وعلا صوتها مهدده برفع قضية علي المدرسة ، لأن الأخصائي الاجتماعي استدعاها لينصحها أن تعرض طفلها علي طبيب نفسي لأنه يعاني من اضطرابات تعوقه عن الدراسة. وأم أخري انهالت علي ابنتها ضرباً لأنها طلبت منها أن تذهب لطبيب نفسي، وسألتها الأم مستنكرة: " ليه هو أنتي مجنونة.. عايزة تفضحينا، ويقف حالك من الزواج " . وكانت أغرب القصص ما قامت به مريضة نصحها طبيبها بالذهاب لطبيب أمراض نفسية لأن الآلام التي تشعر بها ليست بسبب أمراض عضوية، فما كان منها إلا أن انقلبت علي الطبيب صارخة في وجهه وكادت تلقمه لكمات لولا تدخل الممرضات، لأنها ظنت أنه يتهمها بالجنون. مندوبون عن المرضي ولم تكن هذه القصص بأغرب من تلك التي استمعنا لها داخل عيادات الطب النفسي ، فداخل عيادة لطبيب شهير بضاحية مصر الجديدة بالقاهرة استمعت " لها " لقصة إحدي السيدات قالت لنا : " أنا لست مريضة ، ولكن زوجي يرفض الذهاب للطبيب ، فجئت بدلا منه، كي أحكي للطبيب نيابة عنه ، لعلي أجد العلاج عنه " . وبسؤالها عن أسباب رفض زوجها الحضور بنفسه ، قالت : " زوجي رجل أعمال كبير، وخايف أن يتعرف أحد علي شخصيته، فتكون فضيحة علي حد قوله ". وبنفس الأسلوب أقدمت سيدة أخري علي الذهاب للطبيب لتحكي له عن أعراض نفسية تصيب ابنتها، وبصعوبة بالغة استطعنا أن نعرف منها أسباب إقدامها علي ذلك ، حيث قالت باقتضاب: " أخشي أن يري أحد ابنتي تدخل عيادة طبيب نفسي ، فلا يتزوجها أحد ، وتصبح العنوسة مصيرها " . وفي عيادة طبيب آخر بشارع القصر العيني لاحظنا شخص ينزوي في مكان بعيد بغرفة الانتظار ويحاول إخفاء وجهة، ظننت لأول وهلة أنه شخصية شهيرة ويخاف أن يكشف أحد شخصيته .. ولكن الممرض بالعيادة نفي ذلك ، حاولت أن أقترب منه لأعرف أسباب هذه الحالة، فنصحني الممرض بالعدول عن هذه الفكرة ، لأن نتيجة ذلك ستكون فراره من العيادة ، كما فعل في مرات سابقة عندما حاول أحد رواد العيادة أن يقترب منه.. سألت الطبيب عن ذلك ، قال : هذا الرجل يتردد علي عيادتي منذ فترة طويلة ، ولم تكن لدية أي مشكلة في أن يتحدث مع الآخرين ، بل كان يعتبر من أكثر المرضي إقبالا علي ذلك ، ولكن ما حدث أن أحد زملائه بالعمل شاهده بالصدفة وهو يدخل عيادتي ، فانتشر الخبر بمحل عمله، وأصبح الجميع يتجنبه وكأنه مجنون ، وهو الآن يخشي أن ينتشر الخبر بمحل إقامته. الدراما والسينما ويعتبر الربط بين الذهاب للطبيب النفسي والإصابة بالجنون كما يبدو في القصص السابقة من أهم المشاكل التي يعاني منها الطب النفسي بمصر، هذا ما يؤكده د.رامز طه استشاري الطب النفسي . ويحمل د.طه الدراما والسينما مسئولية ذلك ، حيث ساهمت في تشكيل ثقافة المجتمع السائدة حول هذا الفرع من الطب، فتعاملت مع المريض النفسي علي انه مجنون، بل صورت الطبيب نفسه علي انه يصاب بمس من الجنون عن طريق العدوي من مرضاه. وعن الصورة الصحيحة للطب النفسي يوضح د.طه أن الطب النفسي هو فرع من الطب يتعامل مع النفس البشرية بكل أبعادها وأعماقها ومشاكلها وأزماتها.. وليس كل ما تتعرض له النفس البشرية جنون.. فالمصابين به لا يمثلون إلا عشرة بالمائة ممن نتعامل معهم ، تماما كمن يربط بين طبيب النساء والتوليد وعمليات الولادة فقط، ويغفل باقي مشاكل أمراض النساء، التي ربما لا تمثل الولادة فيها إلا جزءا بسيطاً من هذا الفرع الطبي. وعن أكثر الأمراض النفسية انتشارا في عالمنا العربي يري طه أن الاكتئاب يأتي في مقدمتها وسببه الضغوط الاجتماعية مثل البطالة والفقر والعنوسة. هاجس ويتفق مع هذه الرؤية د. محمود عبد السلام صالح استشاري الصحة النفسية بمستشفي بنها للصحة النفسية الذي يؤكد أن مشكلتنا في العالم العربي أننا ندمن دفن الرؤؤس بالرمال ونخشي دائما من الاعتراف، وهذا هو سبب عدم ذهابنا للطبيب النفسي. ويقول: الطب النفسي يتعامل مع الأمراض والمشاكل النفسية التي لابد أن كل شخص تعرض لها في حياته، فمن منا لم يخف ؟ من منا لم يقلق؟.. من منا لم يكتئب ؟.. من منا لم تسيطر عليه الأفكار والهواجس .. فكلنا مرت علينا هذه الأعراض لأننا لسنا بشر (سوبر)، ولكن الفرق أن هناك من لدية الثقافة التي تعينه علي التغلب علي المعتقدات الشائعة ، والتي تربط بين الذهاب للطبيب النفسي والجنون ، وهناك من يظل هذا الهاجس مسيطر عليه. ويحتاج علاج هذه الحالة من وجهة نظر د.صالح الحصول علي حد أدني من الثقافة النفسية، يكون أساسها التوعية بأن الذهاب إلي الطبيب النفسي يتساوي تماما مع الذهاب لأي طبيب أمراض عضوية، وهذا الدور لابد أن تضطلع به وسائل الإعلام وخاصة التليفزيون، من منطلق المثل القائل : " من أفسد شيء فعليه إصلاحه ". ووفقا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية فإن 10% علي الأقل من سكان الوطن العربي يحتاجون إلي علاج نفسي، ويرجع ذلك في تقدير المنظمة إلي موقف الأسرة العربية الغريب في حال إصابة أحد أفرادها بالمرض النفسي، والاضطراب الذي يمكن أن يصيب كل أفراد الأسرة. الدجل والشعوذة ويضيف د.أمجد خيري أخصائي الطب النفسي والعلوم السلوكية إلي الرأي السابق، دافعا آخر لعدم الذهاب للطبيب النفسي في المنطقة العربية وهو الثقة في قدرة الدجالين والمشعوذين علي العلاج أكثر من الطبيب النفسي، ويرجع ذلك إلي معتقدات عربية قديمة تعلي من قيمة الدجل والشعوذة وتراه حلا لكل مشكلات الجسد النفسية والعضوية. ولذلك فإن 95 % من المرضي النفسيين الذين يزورون الطبيب النفسي يذهبون قبله إلي الدجال والمشعوذ، ويكون الطبيب وفق ما توصل د.أمجد في دراسة أجراها مؤخرا هو المرحلة الأخيرة بعد أن يكون المريض قد أعياه الإرهاق من كثرة زيارة الدجالين، والأغرب من ذلك كما كشفت نفس الدراسة أن المريض عندما يشعر بالشفاء يرجع الأمر ليس لدور الطبيب ، ولكن لتأثير الدجال الذي حل عليه متأخرا. وكانت دراسة أخري صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية قد أشارت إلي أن عدد الدجالين في مصر في تزايد مستمر ، وقدرت عددهم ب 300 ألف ينتشرون في كافة أنحاء مصر ، وأوضحت الدراسة أن الإنفاق علي أعمال الدجل والشعوذة تجاوز خمسة مليارات دولار سنوياً، وأن نصف النساء يعتقدن في هذه الأعمال، ويترددن علي الدجالين علانية. شجاعة المرأة ويجمع الأطباء النفسيين علي أنه رغم وصمة العار التي تلحق بكل من يذهب للطبيب النفسي في المجتمعات العربية إلا أن النساء هن الأكثر ترددا علي عيادتهم ، علي خلاف المنطق الذي يقول أن المرأة دائما هي الأكثر خوفا من الفضيحة. ويري د.أمجد في الدراسة التي أشار إليها تفسيرا لذلك، فالمرأة بطبيعة الحال هي الأكثر لجوء للدجال ، وعندما يفشل لا تجد مفرا من الذهاب للطبيب النفسي ، ويكون ذلك في طي الكتمان ، بل قد لا يعرف أزواجهم ذلك. ويقدم د.محمود عبد السلام صالح تفسيرا مختلفا يستند لفكرة أن المرأة بطبيعتها مخلوقا ضعيفا، ومن ثم فالضغوط تكون أكثر تأثيرا عليها من الرجل ، أضف إلي ذلك أن المجتمعات العربية مجتمعات ذكورية يحاول أن يظهر فيها الرجل دائما بمظهر القوي حتي ولو علي حساب صحته النفسية والجسمانية. أما د.رامز طه فينطلق في تفسيره من حقيقة علمية وهي أن المرأة أكثر قدرة من الرجل علي التعبير عن نفسها ، وتميل بطبيعتها إلي الفضفضة ، ومن ثم لا تجد الواعيات منهن أفضل من الطبيب النفسي إذا كن تشكين من مشكلة نفسية. وربما يفسر ما قاله الأطباء ظاهرة ذهاب العديد من نجوم السينما والغناء سواء بالمنطقة العربية أو بالخارج إلي الأطباء النفسيين بصورة أكبر من زملائهم من الرجال ، وليس ببعيد عن الأذهان حالتان الأولي ظهرت كإشاعة لم تنفيها أو تؤكدها الفنانة مني زكي التي قيل أنها تتردد علي طبيب نفسي بعد ارتداء حنان ترك للحجاب لوقوعها في حيرة بين رغبتها في الحجاب مثل صديقتها حنان والاستمرار في أداء أدوار قد يعوق الحجاب أدائها، أما الحالة الثانية فهي النجمة بريتني سبيرز التي دخلت بعد طلاقها من زوجها كيفين فيدرلاين في دوامة من المشاكل النفسية دخلت علي أثرها مصحة نفسية. البداية من الصغر ويبدو من خلال ما سبق أن قضية عدم الذهاب للطبيب النفسي اجتماعية في الأساس، ولذلك فإن الحل من وجهة نظر د.عزة كريم أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ليس بالأمر البسيط، لأنه يتطلب تغيير جذري في معتقدات المجتمع ، وهذا لن يأتي بين يوم وليلة، بل يحتاج لجهود تبدأ منذ الصغر ، بحيث نعود أبنائنا علي أن الذهاب للطبيب النفسي يتساوي مع الذهاب لأي طبيب يعالج الأمراض العضوية، ولابد أن تؤكد المدرسة ووسائل الإعلام علي هذه الحقيقة، فمن الخطر أن نربي أبنائنا علي شيء، ثم تأتي المدرسة أو وسائل الإعلام ليؤكدا علي عكسه. وعن الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام في هذا الصدد تقترح د.عزة تنظيم حملات إعلانية أشبه بالتي يتم تنظيمها لمحاربة البلهارسيا أو الإيدز للدعوة إلي الذهاب للطبيب النفسي إذا اقتضت الضرورة ذلك ، وتقول د.عزة : " صحة الإنسان النفسية أهم من صحته البدنية " ، وتتساءل : " ماذا يفيد الإنسان إذا كان صحيح بدنيا، لكنه مريض نفسيا ؟ " .