حين تشتد الظلمة، وتتغرب النفوس، ويصير من الطبيعي أن نسلك مسالك الشيطان، يرسل الله نورا علي أرضه يغتال تلك الظلمة، ويُعيد النفوس إلى خالقها، ويربت على كتفنا ويأخذ بيدينا إلى طريق الحق، ويجنبنا مسالك الشيطان. خرج علينا ذلك النور في مثل هذا اليوم – 22 سبتمبر – في عام 1917م، وذلك في قرية "نكلا العنب" من إيتاي البارود بمحافظة البحيرة بمصر. ما نقصده هنا هو العلامة الشيخ الجليل محمد الغزالي، الذي نشأ في أسرة محافظة يغلب عليها العمل بالتجارة، وكان والده من حفظة القرآن الكريم، وقد نشأ الابن على ذلك، فحفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات، وتلقى تعليمه في كتّاب القرية، ثم التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية، حيث أكمل المرحلتين الابتدائية والثانوية، ثم انتقل إلى القاهرة، ودرس بكلية أصول الدين سنة 1357ه 1937م، وحصل على الشهادة العالمية سنة 1361ه 1941م، ثم تخصص في الدعوة والإرشاد، حيث نال شهادة الماجستير 1362ه 1943م، وتزوج وهو طالب بكلية أصول الدين ورزق بتسعة من الأولاد. الطبيب الماهر وكان الشيخ الغزالي في دعوته كالطبيب الماهر الذي كشف علل المجتمع، وعرف أدواءه، وحدد له العلاج في تجديد الإيمان، وتعميق اليقين، ومحاربة البدع وأوجه الفساد، وتعزيز العدل الاجتماعي، ومقاومة الاستبداد السياسي، وتحرير المرأة من التقاليد الدخيلة، وتحرير الأمة بتوحيدها، والدعوة إلى التقدم، والاعتزاز باللغة العربية، والثقافة الإسلامية، ومقارعة الخصوم في فكرهم، وليس في شخوصهم، فأرسى أدب الإسلام في الخلاف والجدل والحوار. ويقول عنه المستشار عبدالله العقيل: "حين أكتب عن الشيخ محمد الغزالي السقا، فإنما أكتب من خلال معرفتي به عن قرب، ومعايشتي له، وقراءتي وسماعي له، وهذا بعض حقه عليّ، وشيء من الوفاء لمن تتلمذت على يديه، وهي ذكريات وخواطر مضى على بعضها قرابة نصف قرن، وكانت لنا مع شيخنا الغزالي لقاءات متكررة كثيرة يزودنا فيها بالعلم النافع، ويثير في نفوسنا الحماس للعمل في سبيل الله والمستضعفين، ويبصرنا بمكائد الأعداء في الداخل والخارج، ويكشف مخططاتهم الماكرة لحرب الإسلام والمسلمين، ويفضح دعاوى الشيوعية والعلمانية والماسونية والإلحاد والوجودية والصليبية والصهيونية، ويحذِّرنا من التحالف المشؤوم بين قوى الشر ضد الإِسلام ودعاته، ويوضح لنا سبل التصدي لمقاومة هذه الهجمة الشرسة من قوى الكفر مجتمعة". ويتابع: "إن أستاذنا الشيخ الغزالي داعية متوقد الذهن، جياش العاطفة، عميق الإيمان، مرهف الإحساس، قوي العزم، شديد المراس، بليغ العبارة، يتأثر ويؤثر، حلو المعشر، رقيق القلب، كريم الطبع... يلمس هذا فيه كل من عاش معه، أو رافقه أو التقاه، فهو لا يحب التكلف، ويكره التعالم والتحذلق، يعيش الواقع بكل مشكلاته، ويتصدى للمعضلات، ويكشف الحقائق، ويدق جرس الخطر؛ ليحذر الأمة من الوقوع في المهالك والسقوط في الهاوية التي يقود إليها شياطين الإنس والجن في الشرق والغرب على حدٍّ سواء". الغزالي والإخوان المسلمين عن صلته بالإمام حسن البنا، يروي محمد المجذوب في كتابه "علماء ومفكرون عرفتهم" على لسان الغزالي قوله: "كان ذلك أثناء دراستي الثانوية في المعهد الديني بالإسكندرية، وكان من عادتي ملازمة مسجد عبد الرحمن بن هرمز في منطقة رأس التين بعد المغرب من كل يوم لمذاكرة الدروس، وذات مساء، وإذا بالإمام البنا يلقي على الناس موعظة قصيرة شارحًا فيها الحديث الشريف: »اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن«، وكان حديثًا مؤثرًا يتصل بأعماق القلب، فما إن فرغ منه حتى وجدت نفسي مشدود القلب إليه، ومنذ تلك الساعة توثقت علاقتي به، ومضيت معه عقب صلاة العشاء إلى مجلس يضم بعض رجال الدعوة، ثم استمر عملي في ميدان الكفاح الإسلامي مع هذا الداعية العملاق إلى أن استشهد سنة 1369ه 1949م". وخرج الإمام الغزالي من جماعة الإخوان المسلمين عام 1952 بعد قيادته ثورة ضد مرشدها حسن الهضيبي بسبب أفكاره المتشددة واستئثاره بالرأي وزامله في الخروج من الجماعة الشيخ سيد سابق، وبالرغم من خروجه إلا أنه بعد حل جماعة الإخوان عام 1954 اعتقلته حكومة الثورة. قالوا عن الغزالي وقال عن الغزالي، مدير تحرير مجلة الأمة القطرية عمر عبيد حسنة أنه: "كتابات الشيخ الغزالي تحمل عاطفة الأم على وليدها المريض، الذي تخشى أن يفترسه المرض، وبصيرة الطبيب الذي يقدم العلاج، وقد يكون العلاج جراحة عضوية إن احتاج الأمر إلى ذلك، وكانت كتبه تواجه التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء، ونجد الشيخ الغزالي في الخندق الأول، حيث أدرك الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها أعداء الإسلام". ومدح قطب عبد الحميد قطب، الإمام الغزالي قائلا: "إنني واحد من عشرات الألوف المؤلفة التي تعشق من أعماق قلوبها الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي.. وأشهد أن حبي لهذا العالم الكبير والداعية الشهير أكبر من حبي لنفسي، فهو من القلة النادرة التي تربّى على علمها وفضلها أكثر من جيل، لا في مصر وحدها، ولكن في كثير من البلدان العربية والإسلامية، كيف لا وهو الذي تربى في أحضان الدعوة ورضع من لبانها وتتلمذ على جهابذة العلم وأساتذة الفكر وأساطين الدعوة، وعلى رأسهم الإمام الشهيد حسن البنا". وقال عنه، شيخ الأزهر د.عبد الحليم محمود: "ليس لدينا إلاَّ غزالي الأحياء والإحياء"، يعني الغزالي المعاصر، والغزالي أبا حامد صاحب إحياء علوم الدين. الجدير بالذكر أن الإمام الغزالي توفي في الرياض يوم 3 سبتمبر عام 1996 ونُقل إلى المدينةالمنورة، حيث دفن في مقابر البقيع. وكان للأمير عبد الله ابن عبد العزيز آل سعود دوره المشكور في تقدير الرجل وتكريمه في حياته وبعد مماته ومواساة أسرته.