حين نستسمن ذا ورم، ونحتفى بالنكرات من أهل التطفل، وحين تختل معايير والتقييم، فيصعد من لم يضيفوا إلى رصيد العلم إلا ضجيجا، ويبقى مَن تُشكِّل كلُ لحظة في حياتهم إضافةً وإثراءً للفكر الإسلامي والإنساني في دائرة التجاهل بعد موتهم، يصبح إجبار الموازين على الاعتدال حتمية يفرضها حق الجيل الحالي والقادم في إغناء حياتهم برموز ونماذج للقدوة تضيء لهم معالم الطريق. من هذه الرموز والنماذج، الإمام الداعية، والعلم الأزهري الشيخ محمد الغزالي، مجدد الأمة في الدعوة، كما كان مجددها الإمام الشعراوي في التفسير، والإمام جاد الحق في الفقه، والإمام عبد الحليم محمود في الأخلاق...إلخ. والحديث عن الشيخ الغزالي حديث عن الإسلام الذي صاغه، وحديث عن الأزهر الذي أنجبه: ركع الزمان ببابك استرضاءَ وسعى إليك ليقبس الأضواءَ يا معهدا أحيا القرون جداره وكسى المشارق بهجة وثناءَ تفديك أمجاد الشعوب وحسبهم مجدا بقاؤك بينهم لألاءَ احتفل الناس بالإمام الغزالي ومآثره بعد وفاته، حيث نظمت له ندوات كثيرة في مصر والعالم، كالتي نظمها الدكتور العوا في منزله، ومعهد بحوث الحضارة بالأردن، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وجامعة الأزهر، ورد الجيل الجديد للرجل حقه، حتى غدا موضعا لأطروحات علمية، تناولت فكره وجهاده ودعوته، لكن أفل نجم الاهتمام بالرجل الذي وهب حياته مدافعا عن الدين، خادما له من خلال محاضراته وكتبه وأفكاره. وهاهي ذكراه تأتي (توفى في شوال 1416/1996) دونما اهتمام يليق به وبمكانته، إلا ندوة يتيمة لكنها عظيمة، نظمتها رابطة خريجي الأزهر عنه، وألقيت فيها محاضرات تناولت علمه، وجهاده الحر، ومكانته، وفكره، من الدكاترة أحمد عمر هاشم ومحمد عمارة وأسامة العبد وعبد المنعم أبو الفتوح وأسامة السيد الأزهري وحسن الشافعي ومحي الدين عفيفي، وقد ذكروا من خلق الشيخ وعلمه ومكانته وخدمته للدين ما يستحق الاحترام والتقدير والاهتمام والمشى على الخطى، وقد استفدت في كتابة هذا المقال من بعض ماقالوه. الشيخ محمد الغزالي هو صاحب الفضل على الحركة الإسلامية خاصة في تأسيسها الثاني، فهو الذي انتزع 95% من عنف الجماعات الإسلامية، كما يقول عبد المنعم أبو الفتوح، وكان الشيخ حسن البنا يطلق عليه " أديب الدعوة"، وظل الشيخ الجليل صاحب الجهاد الكبير أمام المستبدين، حيث كتب كتابه: (الإسلام والاستبداد السياسي) سنة 1949 أيام النظام الملكي، معلنا بغضه للاستبداد، وأنه ليس لمخلوق أن يفرض رأيه على الأمة. حارب الشيخ الحرفية النصوصية التي يتمسك بها أولئك المتنطعون المتشددون، لكنهم لم يتركوه، فخرجت العشرات من المؤلفات التي تبدعه، وتفسقه، وتشوه صورته، وتهتك عرضه، وتتهمه في عقيدته، لكنه رحمه الله كان يقول: لو أن لي رصيد عند الله لكان حبي للتراب الذي يمشي عليه محمد صلى الله عليه وسلم . ظل إمامنا الأزهري صلبا أمام المادية المتفلتة، والكائدين للدين، الداعين إلى عزله، فكتب: ظلام من الغرب، الاستعمار أحقاد وأطماع، الإسلام المفترى عليه من الشيوعيين والرأسماليين، الإسلام في وجه الزحف الأحمر، صيحة تحذير من دعاة التنصير، وغيرها. وجمع الدكتور محمد الصغير الطليحاتي (نسبة إلى قرية الطليحات بطهطا) مؤلفاته في كتاب سماه:(لآلي الغزالي .. إطلالة على بعض مؤلفات الشيخ الغزالي). أطلق عليه الشيخ حسن البنا لقب "أديب الدعوة"، وكُتبت عن الشيخ الغزالي عدة كتب وأبحاث وأطروحات جامعية منها: الشيخ محمد الغزالي مفكرا وداعية، للباحث الجزائري إبراهيم نويري، التي نوقشت بجامعة الأمير عبد القادر، سنة 1999م. الغزالي وجهوده في رد مطاعن المستشرقين، (ماجستير) للدكتور محمد الصغير الطليحاتي. قضايا العقيدة في فكر الشيخ محمد الغزالي (دكتوراه) للدكتور محمد الصغير الطليحاتي. مع الشيخ الغزالي رحلة نصف قرن للدكتور يوسف القرضاوي. الشيخ الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية للدكتور محمد عمارة. الشيخ الغزالي ورؤيته المنهجية للفكر الإسلامي والإنساني للشيخ على جمعة مفتي الجمهورية. نظرة في المبادئ الموجهة للتجربة الغزالية للدكتور فهمي جدعان. دفع الشبهات عن الغزالي للدكتور أحمد حجازي السقا. الجوانب الخلقية والنفسية عند الغزالي للدكتور أحمد العسال، وغير ذلك كثر. من أقواله: أذهلني النزاع بين السلفية والصوفية كأن هذا من دين وهذا من دين آخر. إن أناسا من الصوفية يرسلون شكاوى مكتوبة إلى بعض الأضرحة، وهذه مهزلة سخيفة. لما زرت ضريح السيد أحمد البدوي وجدت من أفعال بعض الصوفية ما يستحقون عليه الجلد على ظهورهم. صدق العاطفة عند الصوفية ليس عذرا للخلط العلمي، وللقول في دين الله بالهوى، وإذا كان الصوفية أخطأوا حين درسوا وكتبوا، فإن السلفيين أخطأوا حين وقفوا وتجمدوا. البديل للوضع الحالي ليس لحية كثة ولا جلبابا قصيرا، ولكن عقل نقي صافي، لأن العقول القليلة لا تعرف إلا القضايا الفرعية. استمعت إلى بعض المتحدثين باسم السلفيين، فأحسست أن القوم لن يكيدوا عدوا، ولن يكسبوا معركة، لأنهم لم يدرسوا الميدان الذي توجهوا إليه، ولا الجحور التي تنطلق منها الأفاعي. قال لي أحد الشباب: إن أبا حنيفة مبتدع ويخالف السنة، فقلت له ساخرا: إن بدعة أبي حنيفة خير من سنتكم. رأيت أناسا يتبعون الأعنت فالعنت والغلظ فالغلظ ، فقلت: هذا فكر قطاع طرق لا أصحاب دعوة شريفة وحصيفة، وهؤلاء لا يؤمنون على تدريس الإسلام للتلاميذ فضلا عن أن يقدموه في المحافل الدولية والمجامع العلمية. قال لي واحد: بلغني أنك صليت في مسجد الصنم!! قلت: أي صنم؟! قال: مسجد الحسين، قلت: أنت مسعر فتنة، ما يجد الشيطان خيرا منك في تمزيق الأمة. لن يحكم الإسلامُ إذا كان قادة قافلته قطعانا منسوبة للإسلام يشغلون الناس بحكم الغناء والموسيقى، واللحية، وصوت المرأة، وتقصير الثياب، وزيارة الأضرحة، ويجعلونها مشكلات الأزل والأبد، وكثرة الحديث عن هذه الموضوعات تعد مظهرا للعلل النفسية أكثر مما هو خدمة للإسلام. دفن عليه من الله سحائب الرحمة بجوار سيدنا محمد وأصحابة الأجلاء بالبقيع. [email protected]